ليست المرّة الأولى التي تحاول فيها أطراف من «السلطة السياسية» اختراق حسابات البنك المركزي وأسراره الكثيرة وتهديده بالمساءلة النيابية المُغيّبة والسعي إلى مشاركة حاكمه بمنافع السلطة الفائقة الممنوحة له. لقد حصلت محاولات كثيرة في السابق، جرت لفلفتها سريعاً، وانتهت إلى «توافقات» جانبية مُتفرِّقة، إذ نجح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في كلّ مرّة بتفادي كشف حسابات بنك الدولة والشركات والمشاريع والعمليّات والهندسات التي يُسهم بها. لكنّه، في المقابل، كان مجبراً دائماً على الاستجابة لبعض «المطالب»، إرضاءً لهؤلاء السياسيين «الجشعين» وعائلاتهم ورجال وسيّدات أعمالهم ومؤسّساتهم الربحية وغير الربحية. وكان مجبراً أيضاً على تسديد كلفة إضافية متعاظمة لحشد التأييد المستمرّ لحصانته واستقلاليته وعدم خضوعه لأي نوع من الرقابة وحرّية تصرّفه بالمال العام، بما في ذلك كلفة الحصول على دعم الإعلام والأصوات والجوائز ومكافأة «المريدين» عبر حشرهم في الوظائف في المصرف وهيئاته وشركاته التابعة ومجالس الإدارة واللجان الكثيرة.بمعنى ما، لم يكن هدف هذه المحاولات فرض تطبيق القانون على مصرف لبنان وإلزامه بالشفافية المُتخيّلة، بل بالعكس تماماً، كان هدفها الدائم إجبار «الحاكم» على دفع ثمن معيّن للسكوت عن مخالفة القانون والسماح له بمواصلة إدارة «اللعبة النقدية» الجارية منذ تسعينيات القرن الماضي، التي جعلت الجميع رهائن فيها. فالسياسيون والمصرفيون وجميع المراقبين، يدركون تماماً أن إخفاء الحسابات وطمسها يُعدّ شرطاً ضرورياً من شروط هذه اللعبة الخطيرة والباهظة الكلفة، وبالتالي إنّ أي تغيير في قواعدها سيؤدّي إلى انهيار اللعبة كلّها، وهو ما يُرمز إليه بانهيار سعر صرف الليرة الثابت، الذي حوّلته اللعبة نفسها، ببراعة لافتة، إلى هاجس شبه وحيد يؤرق اللبنانيين ويدقّ مضاجعهم، أكثر من الحرب، ويدفعهم إلى القبول بالوضع البائس الذي يعيشون فيه حفاظاً على «سعر الليرة» ومنعاً لانهياره.
يكفي أن نتخيّل النتيجة لو أن مصرف لبنان التزم نشرَ حساباته الصحيحة والدقيقة، وفق أحكام المادة 117 من قانون النقد والتسليف، التي تُلزمه بنشر الميزانية وحساب الأرباح والخسائر وتقرير عن عمليّاته في السنة المنصرمة في مهلة أقصاها شهر تموز/ يوليو من كلّ عام. تفيد ترجيحات مصرفيين وخبراء محاسبة أن القيام بمثل هذه الخطوة سيكشف عن خسائر باهظة مُخفاة، تراكمت مع السنوات في ميزانية مصرف لبنان، وتقدّر بمليارات كثيرة من الدولارات، أُنفِقَت في الدفاع المستمرّ والمحموم عن سعر الليرة الثابت إزاء الدولار في اقتصاد مدولر بالكامل، وكذلك في دعم أسعار الفائدة السخيّة لجذب المزيد من العملات الصعبة على شكل ديون خارجية، بما فيها ودائع غير المقيمين، التي باتت قيمتها تتجاوز 200% من مجمل الناتج المحلّي، وتستنزف وحدها أكثر من 8 مليارات دولار سنوياً كمدفوعات للفائدة إلى الخارج، أي ما يعادل 14% من مجمل الدخل المحلّي السنوي، وهي نسبة موازنة لنسبة تحويلات اللبنانيين المهاجرين. وأيضاً أُنفِقَت لتمويل الخسائر المتراكمة من جرّاء عمليات إنقاذ المصارف (الهندسة المالية في عام 2016 وحدها كلّفت المال العام خسائر فورية بقيمة 5.6 مليارات دولار) وعمليّات الدمج والتملّك والاستحواذ، وتعزيز الرساميل ودعم الأرباح، ودعم فوائد القروض السكنية والاستهلاكية والاستثمارية لدفع النموّ الاقتصادي الاصطناعي ومنع انخفاض أسعار الأصول والتسبّب بإفلاسات مصرفية، فضلاً عن الخسائر من عمليّات السوق الرامية إلى امتصاص السيولة بالعملات الأجنبية وبالليرة وحجزها في دفاتر البنك المركزي كودائع للقطاع المالي، إذ بات مصرف لبنان مسؤولاً عن توظيف أكثر من 54% من موجودات المصارف المتضخّمة ويسدّد فوائد مرتفعة عليها، بما يكفي كي تحقِّق المصارف أرباحاً مجزية، وفي الوقت نفسه توزّع جزءاً من هذه الأرباح على مودعيها لإغرائهم على إبقاء ودائعهم لديها وزيادتها، وبالتالي زيادة أرباحهم منها (...).
ما سبق، مجرد أمثلة عن الخسائر التي يتكبّدها مصرف لبنان للمحافظة على «اللعبة النقدية» الجارية وحماية المصالح الكامنة فيها، سواء على صعيد تمويل الدولة وآلياتها التوزيعية (المصالح السياسية)، أو على صعيد إعادة توزيع الدخل والثروة (المصالح المالية والتجارية والعقارية)، وهذه الخسائر لا شكّ في أنها أعلى من الأرباح التي يحقِّقها، ولا نحتاج إلى سرد المزيد من الأمثلة المثيرة، ولا سيّما المشبوهة بالفساد وصرف النفوذ والمنفعة الشخصية، كي نستنتج أن «السياسيين» كما «المصرفيون» وسائر المستفيدين والمنتفعين، يعرفون هذه الحقيقة، ولكن لا مصلحة لهم في أن يرضخ حاكم مصرف لبنان لأحكام القانون ويفضح حساباته وعمليّاته وخسائره المُتراكمة. فالتستر على الكلفة الفعلية التي نتحمّلها بحجّة تثبيت سعر صرف الليرة يبدو ضرورياً لتبريرها، ولأنه لا يخفي حجم الخسائر الحقيقي فقط، بل يخفي حجم الأرباح الحقيقي أيضاً، فلا توجد خسارة تسجّلها أطراف لا يقابلها ربح تسجله أطراف أخرى. وفي حالة خسائر مصرف لبنان، فإن الرابحين واضحون وضوح الشمس، وهم مزيج من «طبقة أوليغارشية» تقوم على قاعدة اجتماعية واسعة، وتسعى إلى تعظيم حصّتها من الدخل والثروة، وتمويل استمرارية «نظامها السياسي» القائم، عبر تسخير سلطة مصرف لبنان شبه المطلقة ونفوذه الواسع في الأسواق وقدرته اللامتناهية في خلق النقود وسيطرته على موجودات تساوي مرّتين ونصف مرّة مجمل الدخل المحلّي السنوي.
إذا أمعنا النظر في طبيعة الدور المُناط بحاكم مصرف لبنان، فلن نجد صورة أكثر تعبيراً من صورة «المدير التنفيذي» الماهر الذي تثق به هذه «الطبقة» وتأتمنه على مراكمة ثرواتها وهيمنتها السياسية والاقتصادية والبيروقراطية. لذلك، لا يحاول «السياسيون» إصلاح مصرف لبنان أو تعديل سياسته أو تغيير أدواته أو ربطه بأي سياسات أخرى بدلاً من ربطها بسياسته، بل يحاولون، بكل بساطة، أن يضمنوا أن مديرهم التنفيذي لن يخون ثقتهم، وسيعمل دائماً على إيجاد «طريقة» تعفيهم من العمليّات الجراحية التي قد تُفرض عليهم، ولا سيّما في ذروات الأزمات، عندما يظهر نوعاً من تضارب مصالح بين ما يمكن اعتباره ميدان تراكم «رأس المال» وميدان تراكم «القسر» أو «السيطرة» وتركّزهما. وهذا ما نشهده اليوم.
في هذا السياق، جاءت محاولة وزير المال الأخيرة، التي أسقطها مجلس الوزراء من مشروع موازنة عام 2019، لتعبّر عن لحظة تضارب وشعور بإمكانية الخيانة، فقد حاول الوزير علي حسن خليل تمرير المادة 60 (المُلغاة) التي نصّت على إخضاع موازنات «المؤسّسات العامّة» وتعديلاتها والحسابات المالية الخاصّة بها لمصادقة وزارة المال، وطلبت إيداع الوزارة «المستندات التبريرية والإحصاءات والإيضاحات المطلوبة والمرتبطة بنفقاتها وإيراداتها». لم يكن خافياً أن هذه المادة تستهدف مصرف لبنان تحديداً، وقد سمّته المادة 61 من المشروع نفسه بالاسم كواحد من المؤسّسات والهيئات العامّة المقصودة (قبل أن يُشطَب الاسم)، وهو ما دفع حاكم مصرف لبنان إلى الاعتراض بقوّة والتهديد. فطارت المادّة بسرعة، ولا سيّما أن البعض اتهم وزير المال أنه يريد وضع يده على هذه المؤسّسات وممارسة الوصاية عليها، وهذا ما لا يقبل به الشركاء الآخرون في نظام «المحاصصة».
قبل ذلك، في تشرين الأوّل/ أكتوبر من عام 2017، ومع عودة مجلس النواب لمناقشة الموازنة لأوّل مرّة، بعد انقطاع دام 11 عاماً، طرح النائب جورج عدوان مسألة عدم شفافية حسابات مصرف لبنان ومخالفاته للقانون وتورّطه بعمليّات صرف نفوذ وإثراء غير مشروع، متسائلاً عن مصير الأرباح التي يجنيها مصرف لبنان من توظيفاته في سندات الخزينة. قال عدوان يومها إن المراقبة والمحاسبة غير موجودتين «لأن مصرف لبنان لديه علاقات أكبر من أن يتخطّاها أحد»، وطلب عدوان من وزير المال إطلاع مجلس النواب على الأرباح التي حقّقها مصرف لبنان خلال السنوات العشرين الماضية، متعهِّداً بتقديم طلب «تشكيل لجنة تحقيق برلمانية في حسابات مصرف لبنان في غضون 48 ساعة»، وهو ما شجّعه الرئيس نبيه بري عليه، متوعِّداً: «يسترجي حدا يقول لأ!».
لكنّ أحداً لم يطلب تشكيل لجنة التحقيق، ولم يضطر أحد إلى عرض عضلاته في التصويت مع هذا الطلب أو ضده، لأنهم إذا حاولوا أن ينفّذوا تهديدهم مرّة، فسيظهرون كمن يطلق الرصاصة على رأسه لا قدمه. المشكلة الوحيدة التي تواجهها أطراف السلطة مع حاكم مصرف لبنان أنه سمح للعبة النقدية بأن تتمادى كثيراً، وباتت تحتاج إلى تمويل مباشر من الضرائب التي تجبيها الحكومة، فقد ارتفعت قيمة المبالغ التي يحصل عليها مصرف لبنان من الموازنة العامّة إلى أكثر من 1.8 مليار دولار، وانقلبت الآية، إذ بات مصرف لبنان يتقاضى مبالغ على شكل مدفوعات الفائدة على توظيفاته في سندات الخزينة أعلى بكثير من المبالغ التي تتقاضاها الخزينة العامّة (1.2 مليار دولار) على شكل ضريبة على مجمل مدفوعات الفائدة لدى المصارف وسندات الدَّيْن، وبالتالي صار مصرف لبنان يُسهم في تكبير العجز أكثر بكثير مما يُسهم في تمويله، وبات على «السياسيين» أن يقرّروا إذا كانوا مستعدّين لتحمّل كلفة هذه الخسائر عبر تخفيض حصّتهم من الإنفاق العام المُخصّص لاستيعاب كلّ «جماعة» من جماعاتهم ومنعها من اللجوء إلى العنف لتحصيلها. وهذه ليست مسألة عابرة في ظلّ مجتمع يعاني من خامس أعلى مستوى لتركّز الثروة والدخل على مستوى العالم، وهو مدعو إلى «التقشّف» وزيادة مستوى التركّز