لم تُسدل الستارة بعد على مشروع قانون موازنة عام 2019، بل إن المواقف وردود الفعل والضغوط والاعتراضات، التي أعقبت إقرار المشروع في جلسة مجلس الوزراء في 27 أيار/ مايو الماضي، تدفع إلى الاعتقاد أن الجلسات العشرين التي خصَّصتها الحكومة لمناقشة هذا المشروع، والمفاوضات الجانبية التي سبقتها ورافقتها، لم تكن كافية للتوافق عليه وحسم الخيارات فيه، وبالتالي لم تسفر هذه الجلسات الطويلة عن أي «برنامج عمل مشترك» جديد، يختلف عن البرنامج القائم، المعهود وعديم المسؤولية، أي اللجوء مجدَّداً إلى تأجيل المواجهة مع الاستحقاقات الداهمة والسعي إلى شراء المزيد من الوقت، ولو بكلفة باهظة جدّاً، والبحث عمّن سيتحمّل هذه الكلفة من مستوى عيشه أو من مستوى دخله... وكلّ ذلك في انتظار «عجيبة» ما أو «صدفة» أو الرهان على متغيّرات وظروف وعوامل خارجية على قاعدة المثل الشائع عن «شراء السمك في البحر».باختصار، يمكن إعادة ترتيب ما حصل حتّى الآن وفق التسلسل الزمني الآتي:
ــــ في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2017، وبعد سنة من انتخاب رئيس الجمهورية ميشال عون، صادق مجلس النواب على أول قانون للموازنة العامّة بعد انقطاع مستمرّ منذ عام 2006. تمّ نشر هذا القانون في الجريدة الرسمية بعد انقضاء سنته، وبالتالي صلاحيّته، وتمّ تبرير المصادقة عليه، من دون أي نقاش فعلي له، بأنّه مجرّد إشارة إلى عودة الانتظام العام إلى عمل الدولة بعد 11 عاماً من الإنفاق وجباية الإيرادات خلافاً لأحكام الدستور وقانون المحاسبة العمومية. يومها، اقتصر التوافق على السماح بإمرار قانون الموازنة من دون حسم مسألة حسابات الدولة المالية النهائية العالقة منذ عام 1993، فمنحت الحكومة مهلة إضافية لإنجاز هذه الحسابات، وتمّ تعليق الدستور بذريعة الظروف القاهرة. ويومها أيضاً، تمّ الإعلان عن أن هذه الحكومة ليست حكومة العهد الأولى، وأن موازنتها لعام 2017 ليست الموازنة المنشودة، فكان لا بدّ من انتظار نتائج الانتخابات النيابية التي ستجرى في العام التالي (في أيار/ مايو 2018)، وكذلك انتظار نتائج التحضيرات الجارية في حينه لعقد اجتماع «باريس 4» («سيدر») ونتائج الدراسة التي لُزّمت إلى شركة «ماكينزي» لوضع الخطة الاقتصادية للدولة اللبنانية. بمعنى ما، قُدِّم قانون موازنة عام 2017 بوصفه عملاً شكلياً لا أكثر ولا أقل، ولا ينطوي على أي برنامج عمل جديد للمرحلة المُقبلة.
ــــ في نهاية آذار/ مارس من العام التالي، صادق مجلس النواب على قانون موازنة عام 2018 بمادة وحيدة ومن دون أي نقاش فعلي، مُكرِّراً المخالفة الدستورية المُتمادية، إذ تمّ نشر القانون في الجريدة الرسمية، للمرّة الثانية، من دون إقرار قطع الحساب عن السنوات الماضية، وبقيت الحجّة هي نفسها، أي أن هذا القانون لا يعبِّر عن برنامج الحكومة العتيدة التي ستنبثق عن الانتخابات النيابية المُقرَّرة بعد شهر تقريباً، بل هو مجرّد استجابة شكلية لأحد شروط انعقاد اجتماع باريس والحصول على قروض خارجية جديدة لمواجهة العجز المُتراكم في ميزان المدفوعات، والذي يضغط بقوّة على سياسة تثبيت سعر صرف الليرة إزاء الدولار.
ــــ بعد أيام قليلة، في 6 نيسان/ أبريل من العام نفسه، انعقد اجتماع باريس الموعود، وعلى عكس المزاعم بتأجيل حسم الخيارات في قانونَي الموازنة للعامين 2017 و2018، أصبح لحكومة ما قبل الانتخابات النيابية «رؤية للاستقرار والنموّ وفرص العمل»، جدَّدت عبرها الالتزام المُطلق بحماية الدائنين من أي عمليّات «قصّ شعر» أو «إعادة هيكلة» أو «جدولة» وضمان مواصلة تسديد الفوائد في مواعيدها المستحقّة كأولوية تتفوّق على كلّ أولويات الدولة، كذلك أعلنت الحكومة في «رؤيتها» التزامها المُطلق بوصفة التقشّف التي اقترحها خبراء صندوق النقد الدولي، والرامية إلى تخفيض نسبة العجز المالي من 8.8% من مجمل الناتج المحلّي في عام 2017 إلى أقل من 3.8% في عام 2022، أي بمعدّل لا يقلّ عن 1% من مجمل الناتج المحلّي سنوياً على مدى 5 سنوات. وتضمَّنت هذه الوصفة منذ البداية خريطة طريق تؤدّي إلى تخفيض الإنفاق العام عبر تقليص الأجور ومعاشات التقاعد والتقديمات الاجتماعية ومواصلة تجميد الإنفاق الاجتماعي والاستثماري وإلغاء دعم أسعار الكهرباء تدريجياً، وعبر تحصيل المزيد من الإيرادات من خلال النظام الضريبي القائم من دون أي تعديل، مع التركيز على إمكانية زيادة الضرائب على الاستهلاك، ولا سيّما زيادة الضريبة على القيمة المُضافة ورسوم استهلاك البنزين.
ــــ في أيار/ مايو من العام نفسه، وبعد شهر من اجتماع «باريس 4»، حصلت الانتخابات النيابية وأسفرت عن التجديد للقوى السياسية نفسها، التي كانت تُسيطر على الدولة منذ عام 2005 وانهيار الوصاية السورية المباشرة على لبنان. ولكن تشكيل الحكومة الأولى بعد الانتخابات استغرق 9 أشهر، وعندما تشكّلت أخيراً في مطلع العام الجاري، كانت على غرار الحكومات الائتلافية السابقة، لكنها كانت مُضطرة هذه المرّة إلى حسم خياراتها في مشروع قانون موازنة عام 2019، ولم يكن مُمكناً للقوى الفائزة بالانتخابات أن تواصل هروبها والتملّص من مسؤوليّاتها باستخدام الحِجَج السابقة، لكنّها لجأت إلى المماطلة حتى نهاية نيسان/ أبريل الماضي، عندما فشلت في التوافق على وضع مشروع «أكثر موازنة تقشّفية في تاريخ لبنان» قبل طرحه على مجلس الوزراء، إذ إن البرنامج الوحيد الذي طُرح على هذه القوى هو البرنامج الذي عرضه وزير المال علي حسن خليل في اجتماع عُقد في منزل رئيس الحكومة سعد الحريري في منتصف نيسان/ أبريل، والذي تضمّن مقايضة تقضي بخفض الأجور ومعاشات التقاعد والتقديمات الاجتماعية للعاملين في القطاع العام بقيمة تصل إلى مليار دولار، في مقابل زيادة الضريبة على المودعين بما قيمته نصف مليار دولار، وخفض كلفة خدمة الدَّين العام بقيمة 500 مليون دولار، بالإضافة إلى خفض الإنفاق الجاري المُتبقي بنسب متفاوتة ومواصلة تجميد الإنفاق الاستثماري بحجّة تمويل مشاريع البنية التحتية عبر قروض «سيدر» والشراكات مع القطاع الخاص. هذه المقايضة المطروحة وضعت القوى السياسية كلّها أمام المفاضلة التي تخشاها، ففي لحظة التضارب بين المصالح السياسية والمصالح المالية، كان عليها أن تختار إمّا التضحية بهذه وإمّا التضحية بتلك. وفي الحصيلة، تبيَّن أنها غير قادرة على الحسم، فاضطرت إلى مواصلة التأجيل ورمي الكرة في ملعب مجلس الوزراء وإمرار المزيد من الوقت.
ــــ لم ينجح مجلس الوزراء بدوره، فعمد مجدَّداً إلى الهروب عبر اعتماد مقاربة محاسبية عشوائية للوصول إلى نسبة عجز لا تتجاوز 7.8% من مجمل الناتج المحلّي لعام 2019، ليتبيَّن أن ما توصل إليه من تخفيضات على الإنفاق وزيادات على الإيرادات لا يحقِّق الهدف، أي أن الإجراءات بُنِيت على نتائج وهمية، إذ تمّ تضخيم تقديرات الناتج المحلّي الإجمالي لهذا العام، وجرت قصقصة بعض النفقات من هنا وهناك من دون أي برنامج واضح، وهو ما دفع إلى احتجاجات مستمرّة في القضاء والجامعة اللبنانية، وحصلت معظم التخفيضات الفعلية في الإنفاق الاستثماري وعبر مراكمة المتأخِّرات الواجبة السداد وعدم لحظ كل الاعتمادات المطلوبة في أرقام المشروع، وكذلك عبر زيادة الضريبة على ربح الفوائد وفرض رسم بنسبة 2% على المستوردات، وهذه الإجراءات هي التي سيدور النقاش حولها في مجلس النواب من الآن وصاعداً.
هذا التسلسل الزمني يُعزِّز الاعتقاد أن مشروع موازنة عام 2019 لا يزال خارج التوافق الذي تحتاج إليه القوى المُمثّلة في الحكومة للمضيّ قدماً في إدارة الأزمة وتوازنات المصالح التي تهدِّدها. فها هو التيّار الوطني الحرّ يُعلن أن هذه الموازنة ليست موازنته. وحزب الله يقول إنه لن يصمت في مجلس النواب كما صمت في مجلس الوزراء. والقوات اللبنانية ترفض جهاراً التخفيض الذي طاول التحويلات إلى الجمعيّات. وحركة أمل وتيّار المستقبل يعبِّران عن الخشية من تحميلهما وِزر هذا المشروع، الذي قد يصادق عليه مجلس النواب ولكن بعد توبيخ شديد وإقرار من الجميع بأن العجز الفعلي سيكون أعلى بكثير وأن آثاره الانكماشية على الاقتصاد ستكون مؤلمة وأن الآفاق ستبقى سلبية... والأهم، أنه لم يُعِد الانتظام العام إلى الدولة بسبب العجز عن حسم مسألة الحسابات المالية النهائية للدولة، وهو عجز يجري التعبير عنه بالدعوة مجدَّداً إلى إقرار قانون موازنة 2019 من دون قطع حساب السنوات الماضية، أو إيجاد مخرج شكلي وغير دستوري يقضي بالاكتفاء بإقرار قطع الحساب لسنة 2017 من دون السنوات الأخرى التي أنجزت المديرية العامّة للمالية العامّة قطع حساباتها كاملة.