تتمتّع منطقة بعلبك والهرمل بما يقارب 300 يوم من الطاقة الشمسية ذات الإشعاعات المرتفعة، من دون بناء القدرة على الاستفادة منها بشكل فعّال، على الرغم من أن ذلك سيساهم في خفض كلفة الفاتورة النفطية على الخزينة العامّة، وإيجاد حلول بيئية وصحّية مستدامة لواقع قطاع الطاقة في لبنان، وكذلك تدعيم الأمن الطاقوي للبلاد. في موازاة كل ذلك، أُقرّت خطّة الكهرباء في نيسان/أبريل 2019 والممتدّة حتى عام 2026، ولم تأتِ بجديدٍ على صعيد الطاقة المُتجدّدة غير المشاريع اللامركزية الصغرى والمتوسّطة التي ستلامس مجتمعة ألف ميغاواط بحلول 2026، وترمي المسؤولية كاملة على القطاع الخاص.
لماذا الطفيل؟
الطفيل بلدة لبنانية تقع في أقصى الحدود الشرقية مع سوريا، غابت عن الحياة العامّة في لبنان بكلّ أشكالها وغابت عنها الدولة بخدماتها وإنمائها. يبلغ عدد سكّانها نحو 5 آلاف نسمة، ومساحتها 52 كلم2، بعضها أراضٍ مُلك مصرف لبنان. الوصول إليها يكون إمّا عبر طريق وعِر وغير مُعبّد يربطها بالبلدات البقاعية، وهو عادة مقفل لمدة 6 أشهر في السنة بسبب الأمطار والثلوج، وإمّا عبر الداخل السوري من نقطة المصنع الحدودية.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

على عكس ما كان يروَّج له عن عدم تواجد أراضٍ كافية لتنفيذ معامل للطاقة الشمسية، أظهرت دراسة «المركز الوطني للاستشعار عن بعد» التابع «للمجلس الوطني للبحوث العلمية» حول الأراضي اللبنانية (المشاعات المملوكة من الدولة اللبنانية) التي تمتلك إمكانات مهمّة لإنشاء مزارع للطاقة الشمسية (راجع رأس المال 08/04/2019) أن الطفيل تحتوي على نحو 13 كلم2 من مجمل هذه الأراضي وهي مُسطّحة أو شبه مُسطّحة وذات إشعاعات مرتفعة على مدار السنة. بالإضافة إلى أن موقعها الجغرافي المحاذي للحدود، لا بل الممتدّ إلى الداخل السوري، يساهم في أيّ عملية تبادل طاقوي في المستقبل مع سوريا، أي إنه في حال تعذّر تمديد شبكات النقل بين الطفيل وبعلبك، يمكن وصل المعمل بالشبكة السورية ونقل 300 ميغاواط إضافية في المقابل عبر خطوط الاستجرار الحالية.

دراسة الجدوى الاقتصادية: أسعارٌ تنافس معامل الغاز
أجرى برنامج الطاقة والأمن في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت، بالتعاون مع الجمعية اللبنانية للطاقة المُتجدّدة، دراسة تمهيدية للجدوى الاقتصادية لمحطّة إنتاج بقدرة 300 ميغاواط من الطاقة الشمسية (مع محور تتبّع لحركة الشمس axis tracking-1) في منطقة الطفيل البقاعية. استخدمت هذه الدراسة برمجيات حديثة ومتطوّرة قاربت الشقّين التقني والمالي وتكوين رأس مال المشروع، كما قارنت تطابق نتائجها مع مشاريع مماثلة في أوروبا.
اتّبعت الدراسة مقاربة محافظة خصوصاً على الصعيد المالي، أخذت في الاعتبار تحدّيات النموذج الاقتصادي اللبناني الحالية من حيث معدّلات الفوائد ومخاطر الائتمان المرتفعة، والوضع المتردّي لشبكتي النقل والتوزيع، وكلفة الاستثمار المرتفعة نسبياً خصوصاً في ما يتعلّق بأعمال التعهّدات واليد العاملة. وبناءً على ذلك، تراوحت التكلفة الإجمالية بين 0.75 و1 دولار أميركي لتركيب كلّ واط من معمل الطاقة الشمسية، وهي تشمل تكاليف: الألواح (Panels)، والمغيّرات (inverters)، والمستلزمات الكهربائية وأعمال التعهّدات (Balance Of System)، والأعمال الهندسية، وتحضير الأرض، واليد العاملة، والأذونات، وتقييم الأثر البيئي، وتطوير شبكة النقل والتوزيع مركزياً، والتشغيل والصيانة. (للتفاصيل أضغط هنا)
في المحصّلة، يتبيّن أن متوسّط القدرة الإنتاجية يبلغ نحو 600 غيغاواط ساعة (600 مليون كيلواط ساعة) في السنة، مع أخذ عوامل الطقس والمناخ في الاعتبار، وتتراوح الكلفة الإجمالية لإنشاء المعمل بين 225 و300 مليون دولار أميركي، وهو يمتدّ على مساحة 5.2 كلم2، أي ضمن الـ13 كلم2 التي أظهرها مسح الأراضي في الطفيل. أمّا سعر مبيع الطاقة المُنتَجة من المعمل، وهي الأهم والأكثر دلالة، فيتراوح بين 4.20 و5.32 سنت للكيلوواط ساعة، أي إنه سعرٌ ينافس أسعار الطاقة المُنتَجة من معامل الغاز والبواخر، وهو أقل من كلفة كلّ المعامل العاملة اليوم في لبنان باستثناء تلك العاملة على طاقة المياه. ويُتوقع أن يلامس أرقاماً أدنى من خلال اعتماد مبدأ المناقصات العمومية وفق نظام تنافسي واضح وشفّاف، يسمح بالحصول على أفضل المعايير التقنية وأفضل الأسعار، ويحدّ من المخاطر والأعباء.

هيكليّة المشروع وتكوين رأس المال
بالمبدأ، ووفق فلسفة «سيدر»، يجدر بمشاريع الطاقة أن تُلزّم عبر المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة وفق قانون الشراكة مع القطاع الخاص رقم 48/2017. إلّا أن التجربة أثبتت لجوء الدولة إلى قوانين رديفة تضمن إبقاء رقابة الوزارات على آليّات التنفيذ. لكن بغض النظر عن الجهة المُشرفة، ستوقّع الشركة الملزّمة عقداً لشراء الطاقة مع الدولة اللبنانية لمدة تمتدّ بين 20 و25 عاماً.

63.8 مليون كيلواط/ساعة

أي ما يعادل 63.8 غيغاواط / ساعة هي القدرة الإنتاجية الشهرية القصوى للإشعاعات الشمسية في الطفيل وتسجّل في تموز علماً أن هذه المعدّلات تستمرّ لأربعة أشهر وتترواح بين 60 و50 غيغاواط / ساعة لأربعة أشهر أخرى من السنة ولا تنخفض تحت الـ40 غيغاواط/ ساعة سوى في كانون الأول وكانون الثاني


عملياً، لم يأخذ النموذج المُستخدَم في الاعتبار حسابات الاحتياطي، وقدّرت كلفة الدَّيْن بنحو 7%، وهي متوسّط القيمة المُرجّحة من ثلاثة مصادر للديون: معدّل الفائدة في مصارف التنمية (7%)، معدّل الفائدة في المصارف المحلية (9%)، ووكالات ائتمان التصدير (5%)، فيما قُدّر متوسّط كلفة رأس المال (WACC) بنحو 7.8%. وبالاستناد إلى مخاطر الائتمان المرتفعة والفوائد المرتفعة، يتبيّن أن تكوين رأس المال في أي مشروع شراكة في لبنان ينقسم بين 70% من الديون و30% أسهم الشركاء المساهمين.
بمعنى آخر، إذا كانت قيمة المشروع 300 مليون دولار، يتمّ ضخّ 210 ملايين دولار بموجب قروض من الدائنين، فيما يضخّ المستثمرون 90 مليون دولار كأسهم، وفي حال تعذّر العملية الأخيرة، يتمّ اللجوء إلى القروض غير المضمونة والمرتفعة الفائدة لتأمين المبلغ الباقي. بالنسبة إلى الفوائد، لقد اعتمدت الدراسة معدّلات فائدة مساوية للفائدة على سندات اليوروبوندز الحكومية الحالية، أي 10.5%، ولآجال مماثلة، وأضيفت إليها علاوة على مخاطر البناء بنسبة 5%، ليصبح العائد الإجمالي للمشروع IRR) 15.5%)، وكذلك قاربت سيناريوين لهذا العائد نفسه:
* السيناريو الأوّل ثبّت الكلفة الإجمالية لتركيب كل واط بـ75 سنتاً وسعر شراء الطاقة (PPA price) بـ4.7 سنت للكيلواط ساعة.
* السيناريو الثاني ثبّت الكلفة الإجمالية لتركيب كل واط بدولار واحد وسعر شراء الطاقة (PPA price) بـ6 سنتات للكيلواط ساعة.
وفي كلتا الحالتين، تراوحت كلفة إنتاج الطاقة بين 4.20 و5.32 سنت للكيلواط ساعة. وعلى الرغم من أن هذه الأسعار هي الأعلى وفق السيناريوهين المُعتمدين اللذين يأخذان كلّ المخاطر الائتمانية والمالية في الاعتبار، ومن المتوقّع أن تنخفض إلى مستويات أقل بكثير عند طرح المناقصات، إلّا أنها تبقى أقل من أسعار اتفاقية شراء الطاقة الموقّعة مؤخّراً مع 3 شركات لإنتاج 200 ميغاواط من طاقة الرياح بنحو 9.6 سنتاً للكيلواوط ساعة.

فرص عمل ومراكز تدريب
فضلاً عن الربحية المؤكّدة لهذا المشروع، وقدراته على تخفيض فاتورة الاستيراد من خلال تقليل الاعتماد على الفيول عبر زيادة حصّة الطاقة المُتجدّدة من مزيج الطاقة، ومساهمته في تعزيز الأمن الطاقوي، يشكّل هذا المشروع أيضاً نموذجاً للتنمية المستدامة، فإلى جانب الدور الذي يلعبه في تأمين جزء من حاجة المنطقة من الطاقة، كذلك يفسح المجال لتأمين فرص عمل لأبناء المنطقة على مرحلتين: في مرحلة البناء الممتدّة لسنة تقريباً والتي تؤمّن نحو 200 إلى 250 فرصة عمل مؤقّتة، ومرحلة التشغيل والصيانة التي تؤمّن نحو 5 إلى 10 فرص عمل دائمة. بالإضافة إلى ذلك، يساهم المشروع في بناء القدرات البشرية من خلال إمكانية إنشاء مراكز تدريب دائمة لتعريف طلّاب المدراس والجامعات على اختصاصات علمية وتقنية جديدة في مجال الطاقة الشمسية وتدريبهم للقيام بأعمال التركيب والصيانة والتشغيل.



دمج التقنيات يؤدّي إلى أسعار أكثر تنافسية
تتعدّد تقنيّات الطاقة الشمسية وتتنّوع كلفتها، فإلى جانب التقنية الفوتوفولطائية الضوئية (solar PV) الأرخص حالياً، هناك تقنية الطاقة الشمسية المُركّزة (Concentrated Solar Power CSP) التي تعتمد على انعكاس أشعة الشمس بدل امتصاصها، والتي تعدّ الأغلى، وعادة تستخدم عند عدم توافر أشعة الشمس من خلال التخزين. في الواقع، تعزم وزارة الطاقة عبر المركز اللبناني لحفظ الطاقة على إنشاء محطّات بقدرة 200 ميغاواط وفق هذه التقنية بحلول 2030، بمعزل عن تقنية PV، من ضمنها 50 ميغاواط قبل نهاية 2020، وهي بدأت التحضيرات عبر تثبيت محطّتين لدراسة المناخ وأشعة الشمس في منطقة البقاع الشمالي. وهو ما يعني وجود إمكانيات للاستفادة من هذه الخطط (CSP)، إنمّا لتطوير مشروع الطفيل أو غيره من المشاريع المُشابهة ذات البعد الوطني والفائدة الجماعية، لا سيّما أن هناك دراسات حديثة مبنية على تجارب في مشاريع حيّة، مثل محطّة «محمد بن راشد آل مكتوم» في دبي (950 ميغاواط)، تؤكّد على تنافسية المشاريع التي تدمج بين تقنيّتي PV وCSP في مشروع واحد وتشجّع على المضي قدماً في تطويرها، كونها تساهم في:
* توفير في أسعار المعدّات واليد العاملة وأعمال التعهّدات من خلال دمج القدرة الإنتاجية.
* توقيع عقود شراء طاقة لمدّة أطول تصل إلى 30 و35 سنة.
* إنتاج كهرباء رخيصة الثّمن خلال النّهار من الـPV، مدموجة مع CSP خلال ساعات الذروة والليل عبر التخزين، وبالتالي الحصول على تغذية أطول من الطاقة النظيفة ما يسمح بالوصول إلى أسعار تنافس مصادر الطّاقة التقليدية.

* باحث في مجال الطاقة معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت