صدرت مؤخّراً ورقة بحثية بعنوان «كيف تؤثّر الإصلاحات الهيكلية على اللامساواة: تحليلٌ تفكيكي لشروط صندوق النقد الدولي، 1980-2014». تركّز هذه الورقة الصادرة عن دورية Social Science Research على دراسة عامل أساسي مؤثّر على تحديد مستوى اللامساواة في العالم ولا سيّما في الدول النامية. وهذا العامل المهم، إنّما غير المتداول والمدروس وفق الباحثين، هو برامج الإصلاحات الهيكلية التي يفرضها صندوق النقد الدولي.تتناول الدراسة قاعدة بيانات 135 دولة حول العالم خلال الفترة المُمتدة بين عامَي 1980 و2014. يدرس الباحثون اللامساواة في الدخل اعتماداً على قياسات رياضية بهدف تبيان أثر متغيّرات عدّة تتعلّق ببرامج الصندوق والسياسات الإصلاحية المقرونة بها أو ما يُسمّى «شروط» الصندوق التي على الدولة الالتزام بها بهدف الحصول على قروض منه.
يتوصّل الباحثون إلى خلاصة تفيد بأن الإصلاحات في السياسات الاقتصادية التي يُمليها صندوق النقد الدولي، بشكل عام، تزيد من حدّة اللامساواة في الدخل في الدول المُقترضة. تكمن أهمّية هذه الورقة في التحليل التفكيكي لشروط الصندوق وسياساته، ودراسة أثر كلّ منها، والآليات التي تؤثّر من خلالها على اقتصاديات الدول ومستويات اللامساواة فيها.
مورو ــ كوبا

بغية تكميم مستوى اللامساواة يستخدم الباحثون مؤشّر جيني (GINI index) وهو رقم يتراوح بين صفر ومئة (أو صفر وواحد)، حيث يشير الصفر إلى توزيع متساوٍ تماماً للدخل في اقتصاد معيّن، فيما تشير المئة إلى تركّز كل الدخل في شخص واحد. فتزداد اللامساواة كلّما ارتفع هذا المؤشّر واقترب من عتبة المئة. يركّز الباحثون على أربعة مجالات لعمل صندوق النقد وتطبيق سياساته التي تحمل في طيّاتها تبعات وعواقب خلل في إعادة توزيع الدخل.

المجال الأوّل: إصلاحات السياسة المالية
يتمّ تناول الإصلاحات في السياسة المالية على أنها تلك التي تطالب بخفض الإنفاق الحكومي. لقد أظهرت الدراسات ارتفاعاً حادّاً في مستويات اللامساواة إثر تطبيق هذه السياسات، بمعزل عن أسبابها سواء كانت استجابة لشروط صندوق النقد أم لا. فخفض الإنفاق الحكومي يتلازم مع انخفاض في حصّة الأجور من الناتج المحلّي بسبب انخفاض أجور موظّفي القطاع العام أو نتيجة التراجع في النشاط الاقتصادي. وهذا الخفض في الإنفاق العام يؤدّي إلى ارتفاع في مؤشّر جيني، أي إلى تركّز أكبر للدخل الفعلي بيد فئة أقلّ. إلّا أن صندوق النقد كثيراً ما يلجأ إلى العمل ضمن هذا المجال عبر فرض شروط تتعلّق بإدارة الإنفاق الحكومي والحدّ منه، والشفافية المالية، والتدقيق المالي، وإعداد الموازنة، والديون المحلّية، وغيرها... يمكن لهذه الشروط أن تكون تفصيلية وجراحية جداً لناحية التدخّل المُفصّل في إدارة اقتصاد البلاد. ففي عام 1993، شمل برنامج صندوق النقد في السلفادور قيوداً فصليّة على الإنفاق العام للحكومة المركزية. أي حدّد الصندوق السقف الذي لا يمكن للحكومة أن تتخطّاه في إنفاقها كل ثلاثة أشهر. هذا فيما تُعدّ الموازنة والإنفاق من الأمور السيادية الخاصّة بكل بلد! كذلك عام 2006، طالب الصندوق تركيا بتحديد سقف للإنفاق الكلّي الأساسي للحكومة المركزية ومؤسّسات الضمان الاجتماعي.

المجال الثاني: لَبرلة الاقتصاد
تتركّز الشروط التي يطلبها صندوق النقد من الدول تحت عنوان «إصلاح» العلاقة مع القطاع أو السوق الخارجي، على لَبرلة التجارة وحسابات رأس المال. وغالباً ما تضمّنت الإصلاحات الهيكلية التي يطرحها الصندوق خفض القيود على حركة السلع وتدفّق رأس المال. يحاجج الليبراليون من أنصار خطوات مُشابهة بأن فتح السوق المحلّية على الخارج ورفع القيود والرسوم على التجارة ستؤدّي إلى خفض اللامساواة. ويشيرون إلى أن ارتفاع حجم التجارة مع الخارج سيؤدّي إلى تحسين الظروف المعيشية للعاملين في قطاعات إنتاجية موجّهة للتصدير. إلّا أن الوقائع تقدّم طرحاً مغايراً، فلبرلة التجارة في أميركا اللاتينية لم تؤدِّ إلى هذه النتائج الحميدة المُتخيلة. إذ ترافقت هذه الخطوات مع رفع الحماية عن القطاعات كثيفة اليد العاملة غير الماهرة، أي ببساطة القطاعات الإنتاجية التي تعتمد بشكل كبير على يد عاملة لا تملك مهارات عالية، ما أدّى إلى انخفاض سعر هذا النوع من العمل ورفع اللامساواة نتيجة لذلك.
يُقرّ الباحثون بصوابية القول إن تدفّق الاستثمارات الخارجية المباشرة إلى بلد معيّن تقترن ومستويات أعلى من النموّ الاقتصادي، وتقدّم في تشكيل ومراكمة رأس المال البشري. لكنّهم يلفتون إلى أن التنمية المالية ولبرلة حسابات رأس المال، الذي يعكس الفارق بين امتلاك الأجانب لأصول محلّية وامتلاك محليين لأصول أجنبية، كلّها أمور تميل لصالح الفئة في أعلى هرم توزّع الدخل، ما يؤدّي إلى زيادة أكبر في اللامساواة. تقدّم النيجر وسريلانكا أمثلة واضحة حول هذه النقطة. فقد أُجبرت الأولى على خفض السلع الممنوع استيرادها عام 1990. أمّا سريلانكا فقد أجبرت عام 2001 على إلغاء تثبيت سعر الصرف والانتقال إلى سعر صرف مرِن حتّى تتمكّن من الحصول على المساعدة المالية.

المجال الثالث: إصلاحات القطاع المالي
يروِّج صندوق النقد غالباً لإصلاحات في السياسات النقديّة، تبدأ بخصخصة المؤسّسات المالية، وتحدّد أهدافاً أو مستويات معيّنة لمؤشّر التضخّم. تهدف هذه الإجراءات إلى تحقيق استقرار القطاع المالي، وخفض التضخّم، وتقليص فرص حدوث انهيار للعملة المحلّية. إلّا أن مواجهة التضخّم لها كلفتها، وأحياناً تكون عالية، خصوصاً أن رفع معدّلات الفائدة بغية خفض التضخّم، هو إجراء يصبّ في صالح الدائنين على حساب المَدينين، ومن شأنه أن يزيد من حدّة اللامساواة ويوسّع الفجوة. تطال هذه الإصلاحات كذلك إدارة المؤسّسات المالية، وسندات الخزينة، والبنك المركزي وغيرها... فمثلاً، شملت اتفاقية الإقراض بين الصندوق وغواتيمالا على سقوف كمّية لمعدّل نمو المطلوبات المصرفية للقطاع الخاص والدَّائنين المحلّيين. واللافت أن الصندوق أملى على أوغندا وجوب خصخصة «مصرف أوغندا للتنمية» عام 2002.

المجال الرابع: تقييد الدَّيْن الخارجي
يولي الصندوق أولوية للتعامل مع الدَّيْن الخارجي وفق مجموعة معايير تحدّ من الاستحصال على ديون خارجية جديدة. إلّا أن حَجب الاقتراض الخارجي عن دولة ما قد يجعلها غير قادرة على الحفاظ على استدامة إنفاقها العام. وهو ما يدفع الحكومة إلى خفض الإنفاق، وبالتالي خفض حصّة الطبقات العاملة والمتوسّطة والفقراء من الدخل، ما يكرّس اللامساواة أكثر. وكان الصندوق قد أصدر توجيهاً عام 1983 للأوروغواي بأنه ومن أجل تحسين وضع استحقاقاتها الخاصّة بالدَّيْن الخارجي، يجب ألا تتعدّى الزيادة الصافية في دَيْن القطاع العام للخارج 50 مليون دولار فقط على الآجال المُحدّدة بسنة واحدة.

أثر الشروط على معدّل جيني
يُجري الباحثون قياسات رياضيّة للتحقّق من توافق الوقائع مع الحجج التي يعرضون. والنماذج «الرياضياتية» التي يعملون عليها تدرس تغيّر مؤشّر جيني في 135 دولة بين عامي 1980 و2014. يأخذ الباحثون في الاعتبار متغيّرات عدّة مؤثّرة على هذا المؤشّر منها: عدد الشروط المفروضة من صندوق النقد مجزّأة وفق المجالات الأربعة السابق ذكرها، ونصيب الفرد من الناتج، والتضخّم، والبطالة، وشروط الدَّيْن، والتعليم، ومؤشّرات سياسية... إلخ.
تبيّن النتائج أن كل شرطٍ إضافي يفرضه الصندوق بما يتعلّق بالسياسات المالية يزيد من تركّز الدخل الفعلي بنحو 0.495 نقطة مئوية وفق مؤشّر جيني. لكن إذا أخذنا في الاعتبار أن المعدّل الوسّطي للشروط على الدول هو 3.5 نقطة مئوية، تصبح الزيادة الفعلية في المؤشّر 1.7 نقطة مئوية. يقابل ذلك زيادة بنحو 0.836 نقطة مئوية نتيجة لكل شرط إضافي يُفرض في المجال المتعلّق بلبرلة الاقتصاد وحسابات رأس المال، وهو يُترجم وفقاً للمعيار نفسه إلى زيادة فعلية تتعدّى نقطتين من مئة. أمّا كل شرط إضافي يتعلّق بالدَّيْن فيؤدّي إلى زيادة مقدارها 0.481 نقطة مئوية، إلّا أن معدّل الشروط الخاصّة بهذا المجال تتعدّى الثمانية، فيؤدّي ذلك إلى زيادة فعلية في مؤشّر جيني بأكثر من 4 نقاط من مئة.