في الأيام القليلة الماضية، مُرِّرت أعمال كثيرة في مجلس النواب ومجلس الوزراء: مُنحَت الحكومة إجازة بالإنفاق والجباية في عام 2019 بأكمله، من دون انتظار قانون الموازنة العامة، على غرار ما يحصل فعلياً منذ عام 2005. ومُنحَت أيضاً إجازة بالاقتراض بالعملات الأجنبية بقيمة 4.8 مليارات دولار، بالإضافة إلى الإجازة المفتوحة بلا سقف للاقتراض بالليرة وطبع العملة، وهذا أيضاً من دون انتظار قانون الموازنة العامة، على غرار ما يحصل منذ عام 1996 بلا انقطاع، ومن دون إعلان أي برنامج جديد لإدارة الدَّين العام وخفضه أصلاً وفوائد. كذلك أُصدِرَت كمّية كبيرة من المراسيم والقرارات التي تغطي - «على سبيل التسوية» - ممارسات وتصرّفات، سبقت تشكيل الحكومة الحالية، وقام بها الوزراء في مرحلة تصريف الأعمال، ورتّبت التزامات على الدولة وإنفاقاً وجباية للمال العام لا تندرج بأي شكل من الأشكال ضمن التعريف الضيّق لتصريف الأعمال، مثل نفقات السفر والوفود والمؤتمرات، أو مثل تحديد الرسوم السنوية المترتّبة على التراخيص بإشغال الأملاك العمومية البحرية. كذلك أُقرَّ عدد من المراسيم والقرارات لفتح اعتمادات مالية ونقلها من باب إلى باب أو من بند إلى بند، مثل فتح اعتماد إضافي بقيمة 300 مليار ليرة لتغذية معاشات التقاعد وإعطاء مؤسّسة كهرباء لبنان سلفة خزينة عاجلة بقيمة 400 مليار ليرة لشراء المحروقات وتسديد أقساط القروض الأجنبية وفوائدها حتى أول آذار/ مارس الجاري، وكل ذلك سبق أن تحقّق ونُفّذ على أساس «موافقة مُسبقة» منحها من لا يمتلك الصلاحية بمنحها وحده أو بالمشاركة مع آخرين. وأُصدِرَت قوانين لعقد اتفاقيات قروض جديدة، أو تعديل اتفاقيات قائمة، وكل ذلك (أيضاً وأيضاً) يجري من دون توضيح جدوى المشاريع المخصّصة لها ولا ترتيبها على سلّم الأولويات ولا موقعها ضمن برنامج استثماري مُعلن من قِبَل الحكومة.لائحة الأمثلة تطول، ولن يتسع المجال هنا لتعدادها جميعها. وعلى أي حال، قد لا نكون بحاجة إلى مزيد من الأدلة على أن شيئاً في «السياسة» و«الإدارة» لم يتغيّر حتى الآن، لا كنتيجة للانتخابات النيابية بعد 9 سنوات من عدم إجرائها، ولا كنتيجة لتشكيل الحكومة، التي ضمّت جميع الفائزين في هذه الانتخابات، بعد نحو 9 أشهر من تعثّر تشكيلها والصراع على الحصص فيها وتوزيعها. وهنا بيت القصيد، إذ كيف يمكن الثقة بمن يشهر سيف الإصلاح ومكافحة الفساد وإعادة الانتظام العام إلى عمل الدولةوالتصدّي للأزمة الاقتصادية والاجتماعية والمالية والنقدية ما لم يكن مستعدّاً الآن، فوراً وتواً، للقطع مع الممارسات والأعمال والتقاليد والأعراف التي تأسّست وترسّخت على مدى ربع القرن الماضي؟
لا شكّ في أن دائرة الإقرار بوجود أزمة جدّية في النظام السياسي ونموذجه الاقتصادي وقنوات تمويله اتسعت كثيراً في السنوات القليلة الماضية، وانضمّت إليها قوى ونخب وازنة في الدولة والاقتصاد والمجتمع المدني، ولو بدرجات ومستويات ومآرب مختلفة. ويطغى اليوم خطاب شديد اللهجة عن أن الأمور ليست على ما يرام، ولا يمكن أن تستمر على حالها ولا بدّ من القيام بعمل ما لعكس اتجاهها. ولكن ما تقوم به الحكومة الجديدة، ومعها مجلس النواب الجديد، لا يعكس بأي شكل من الأشكال هذا الخطاب، كما لا يعكسه ميزان القوى الذي لا يزال يميل بوضوح لمصلحة الإبقاء على الوضع القائم واستبداده. فكل ما تقوم به الحكومة والمجلس الآن هو تكرار للأعمال نفسها التي درجت عليها كل الحكومات السابقة والمجالس النيابية السابقة، منذ الانزلاق إلى فخّ العجز المالي والمديونية بعد الحرب، أي اتخاذ كل التدابير الاحتياطية ليتسنّى للقوى المسيطرة على الدولة مواصلة الإنفاق والجباية والاقتراض، من دون الاضطرار إلى الإجابة عن الأسئلة المحورية: ما النتائج التي ستؤدّي إليها مواصلة القيام بهذه التدابير نفسها كمسلَّمات لا بدائل لها؟ وهل حقّاً لا توجد خيارات سوى السير بلا كوابح نحو الهاوية؟
لقد رسّخت هذه التدابير الاحتياطية، بفعل تراكمها بعضها كطبقات كثيفة فوق بعض، ممارسات في إدارة المال العام، خارجة عن كل الأصول النظامية وبعيدة عن أي رقابة مسبقة ولاحقة. وشيئاً فشيئاً، تحوّل الاستثناء والمؤقّت إلى قاعدة دائمة ومقبولة ومبرّرة بحجّة «تسيير الدولة أو المرفق العام»، وحلّت الاجتهادات «غبّ الطلب» محل نصوص الأحكام الواضحة التي وُضعت لتعيين حدّ السلطة في التصرّف بمال الدولة وموجوداتها وأصولها وملكيّاتها، وغُيّبت الإدارة العامة وهمّشت وهشّمت ومُنعت من تأدية واجباتها، كما قال المدير العام للمالية العامة ألان بيفاني في مؤتمره الصحافي الأخير، لتغطية «الفظاعات» التي ارتُكبت في الماضي، والتي لا تزال تُرتكب، في ظل المراهنة دائماً على «التسويات» و«غضّ الطرف» و«العفو عمّا مضى».
لنتمعن قليلاً في الأمثلة المذكورة أعلاه، ليتبيّن أنها هي النظام القائم بالفعل، الذي تحاول القوى المُهيمنة أن تحافظ عليه. فالحجّة التي أعلنها وزير المال علي حسن خليل لعدم إعطاء الأولوية لوضع مشروع قانون الموازنة لعام 2019، أنه «غير راضٍ» عن أرقامه، ولا سيّما العجز الكبير المتوقّع فيه، في ظل تنامي الإنفاق على مدفوعات الفائدة على الدَّين الحكومي ومدفوعات الأجور والتقديمات ومدفوعات دعم تعرفة الكهرباء وتنامي مطالب الوزارات نتيجة تراكم الالتزامات والمتأخّرات والتحويلات التي فرضتها الحكومات السابقة أو أُلزِمَت بها بموجب القوانين والاتفاقيات، وكذلك تنامي الحاجات التمويلية لتسديد حصّة الدولة من المشاريع المموّلة بقروض خارجية مُبرمة سابقاً أو متوقّع إبرامها وفق برنامج «سيدر».
طبعاً، لا تصلح مثل هذه الموازنة المتضخّمة لطمأنة الدائنين. وهي تتناقض مع شروط التقشّف (السيّئ الذكر)، وفي مقدّمها خفض العجز بنسبة 1% من الناتج المحلّي الاجمالي سنوياً، وعلى مدى السنوات الخمس المقبلة. لذلك، أعلن رئيس الحكومة سعد الحريري في الجلسة النيابية الأخيرة أنه يحتاج إلى 3 أشهر قبل أن يكون قادراً على إحالة مشروع الموازنة على مجلس النواب، أي إن «الخطّة» التي ستعتمدها الحكومة للتقشّف المفروض لن تُطرح للنقاش قبل مضيّ نصف السنة الجارية، هذا إذا كان ما أعلنه الحريري مُمكناً تحقيقه في هذه المهلة.
ماذا يعني ذلك بالأرقام؟ يعني أن الحكومة ستُنفق أكثر من 18 مليار دولار هذا العام على غرار العام الماضي، وبالتالي سترتّب عجزاً مالياً بقيمة تتجاوز 6 مليارات دولار، وستقترض هذه القيمة لتمويل العجز، وقد تقترض أكثر في حال ارتفاع أسعار الفائدة وأسعار النفط ووُظِّف المزيد من العسكر والمتعاقدين والمياومين وغير ذلك، وستضطر إلى تسديد أكثر من 6 مليارات دولار كفوائد على ديونها للإيفاء بالتزامها خدمةَ هذه الديون كأولوية على ما عداها. وكل ذلك سيزيد من الأزمة ويفاقمها قبل الاضطرار إلى مواجهتها وجهاً لوجه، أو «التوافق» على التسويات التي تفرضها هذه المواجهة، ليس على صعيد تحديد من سيخسر ومن سيربح فحسب، وهذا الأكثر أهمّية في الحصيلة، بل أيضاً على صعيد الكيفية التي ستُخرَج فيها هذه التسويات وتُجعَل قابلة للتحقّق، فإنجاز الحسابات المالية النهائية للدولة من قِبَل المديرية العامة للمالية العامة، على سبيل المثال، جعل عملية الإخراج في غاية الصعوبة، ودفع بعض القوى إلى رسم الخطوط الحمر مسبقاً وتطييف المسألة، وبالتالي جعل هذا الإنجاز عائقاً أمام عودة الانتظام العام إلى مالية الدولة وإدارتها بدلاً من أن يكون المدخل الإلزامي إليه.
لقد كان تسييب المال العام شرطاً من شروط صمود النظام كل هذه المدّة، على الرغم مما واجهه من أحداث وتحوّلات جارفة محلّية وإقليمية ودولية. حُوِّلَت الدولة طوال الفترة الماضية إلى آلة ضخمة لشراء الولاءات السياسية وتهدئة التوترات الاجتماعية وإثراء النخبة الصاعدة «الأوليغارشية». فهل يمكن تغيير هذا الواقع بالتوافق؟ الجواب الأكيد أن ذلك لن يحصل ما دامت التدابير لمواصلة الإنفاق والجباية والاقتراض متّخذة سلفاً، ومن دون أي شروط.