كما النظام الضريبي ظالم وغير كفوء ويساهم في تركيز الدخل والثروة لدى القلّة ويشجّع الريع والكسل على حساب الإنتاج والعمل، كذلك الإنفاق العام، ذاك الجانب المُظلم الآخر للسياسات المالية المُتّبعة.بالاستناد إلى قانون الموازنة العامّة لسنة 2018، يمكن تجميع نفقات الحكومة في 4 أبواب رئيسة وفقاً للتصنيف الاقتصادي والوظيفي، وهي: 1- الفوائد. 2- الأجور والتقديمات ومعاشات التقاعد. 3- الدعم المباشر والتحويلات إلى القطاعين العام والخاص والمنظّمات غير الحكومية. 4- عقود المقاولات والصيانة والتشغيل والدراسات. تمثّل هذه الأبواب القنوات الأهمّ لتمويل استمرارية النظام السياسي ونموذجه الاقتصادي، وتنطوي على عملية إعادة توزيع واسعة لصالح 5 فئات مستفيدة مباشرة، بتفاوت شديد طبعاً.
وفق الاعتمادات المفتوحة في قانون الموازنة الأخير (وهي تقديرات لا تتطابق تماماً مع الإنفاق المُحقّق فعلياً)، وبعد إضافة نحو 1.8 مليار دولار كسلفات لمؤسّسة كهرباء لبنان، تكون الحكومة قد أنفقت العام الماضي ما لا يقلّ عن 17.6 مليار دولار، منها 16.2 مليار دولار كإنفاق جارٍ، و1.4 مليار دولار فقط كاستثمارات في البنية التحتية والخدمات الأساسية والتجهيزات وصيانتها.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره


أين أُنفِقت هذه الأموال؟ ومن استفاد منها مباشرة؟ لتسهيل قراءة عملية التوزيع كمّياً، سنستخدم المثال التقليدي: كيف تنفق الحكومة كل 100 دولار.
1- تنفق الحكومة 31 دولاراً من كل 100 دولار لتسديد الفوائد على الدين إلى أصحاب الودائع وسندات الدَّين والأسهم في المصارف. وتعتبر هذه الفئة الرابح الأكبر من الإنفاق العام، وهي تحصل على نحو 5.5 مليار دولار من الموازنة العامة سنوياً، أي أكثر من 45% من مجمل تقديرات الإيرادات. وتلعب مدفوعات الفائدة دوراً توزيعياً عكسياً، من فئات الدخل الأدنى إلى فئات الدخل الأعلى، نتيجة تركّز الضغط الضريبي على استهلاك الأسر. وتذهب في الحصيلة إلى عدد قليل جدّاً من كبار المودعين والمساهمين في المصارف والمضاربين على سندات الدَّين.
يوجد في لبنان نحو 2.9 مليون حساب مصرفي، ولكن بعيداً من أي وهم، فإن 45% فقط من البالغين المقيمين في لبنان لديهم حسابات مصرفية ويمكن أن يستفيدوا من مدفوعات الفوائد ودعم فوائد القروض، علماً أن 0.8% فقط من الحسابات في المصارف تستحوذ وحدها على 52% من مجمل الودائع. وهذا يعني أن نحو 25 ألف شخص (23.200 حساب) فقط يفوزون وحدهم بالقسم الأكبر من الإنفاق العام.
2- تنفق الحكومة 36.5 دولار من كلّ 100 دولار لتسديد الرواتب والأجور والتقديمات الاجتماعية والمساهمات في صناديق التعاضد ومعاشات التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة للعاملين بشكل نظامي أو لا نظامي في الدولة.
بعيداً من كلّ تضخيم يرافق الحديث عن حجم الدولة، فإن أكثر من 60% من هذه المبالغ تذهب إلى نحو 120 ألف ضابط وعنصر في الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة وسائر الأجهزة الأخرى. فضلاً عن آلاف العاملين في 1250 مدرسة و60 فرعاً للجامعة اللبنانية و1044 بلدية.
وفقاً لقانون موازنة عام 2018، تبلغ كلفة الأجور وملحقاتها نحو 3.4 مليار دولار، تضاف إليها تقديمات اجتماعية بقيمة 570 مليون دولار، ومساهمات في صناديق التعاضد واشتراكات في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بقيمة 270 مليون دولار، ومساهمات في الأجور والرواتب لعدد من المؤسّسات العامّة بقيمة 330 مليون دولار. أي إن الحكومة تنفق 25.5 دولار من كل 100 دولار على الذين ما زالوا في الخدمة، وتنفق 11 دولاراً من كل 100 دولار على الذين تركوا الخدمة (1.8 مليار دولار لمعاشات التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة).
3- تقدّم الحكومة دعماً مباشراً لأسعار الكهرباء بقيمة 1.8 مليار دولار، وتوزّع نحو 822 مليون دولار عبر المؤسّسات العامّة، وتوزّع نحو 420 مليون دولار كدعم مباشر للقطاع الخاص والجمعيات الأهلية. ما يعني أن 17.5 دولار من كل 100 دولار تنفقه الحكومة كتحويلات سنوية من المال العام إلى الأسر الفقيرة والثرية والمؤسّسات المختلفة (دعم الكهرباء) وعدد كبير من المنتفعين، عبر التعويضات وخدمات المؤسّسات العامّة ودعم فوائد القروض السكنية والقروض الاستثمارية وتمويل برامج وصناديق النقابات والجمعيّات المدنية، الأهلية والطائفية. ويذهب قسم مهمّ من هذا الإنفاق إلى أصحاب المشاريع العقارية والسياحية والتجارية وبعض الصناعات والزراعات المحمية.
4- يستفيد المقاولون المحلّيون والأجانب وملّاك الأراضي والاستشاريون من استملاكات وعقود إنشاء وتشغيل وصيانة ودراسات بقيمة 1.4 مليار دولار، أي إن الحكومة تنفق 8 دولارات من كل 100 دولار على خلق التجهيزات وصيانتها وتشغيلها واستملاك العقارات لإنشائها، ولا سيّما تجهيزات الطرق والمشاريع المائية.
تنفق الحكومة 93 دولاراً على هذه الأبواب الأربعة، ولا يبقى سوى 7 دولارات من كل 100 دولار لتقوم بكل وظائف الدولة الأخرى، وهو مبلغ ضئيل بكل المقاييس، ولا سيّما أن الإنفاق الاستثماري (8 دولارات) هو ضئيل أيضاً، وهذا يعني أن 85 دولاراً من كل 100 دولار تُنفق في مقابل إنتاجية متدنية، ولا سيّما على الفوائد والدفاع والأمن والنفقات الاستهلاكية التي تستنزف أكثر من نصف الإنفاق العام.