«إن كفاءة الدولة الكبيرة يمكن التساؤل حولها، أمّا فعاليتها في منع سقوط السماء فهو أمر لا يُمكن التشكيك فيه»هايمان مينسكي

في مقابلة مع شبكة CNN، الأسبوع الماضي، سُئِل بيل غيتس عن النقاشات الحالية حول الاشتراكية في الولايات المتّحدة. أجاب غيتس، مع تفهّمه لهذه النقاشات، أنه يفضّل الرأسمالية، ولكنّه أضاف أن هناك مئات المتغيّرات في الرأسمالية التي يمكن تغييرها، مثل الضرائب على الربح الرأسمالي أو ضريبة الإرث، وبذلك يصبح المجتمع أكثر مساواة والدولة أكثر قدرة على تقديم الخدمات الأساسية، ولكن ضمن النظام الرأسمالي نفسه.
لا بأس، كما يُقال، فبيل غيتس، في المقابلة نفسها، اعتبر أن رأيه ربّما يكون منحازاً، لأنه من الذين استفادوا من النظام. ولكن في مناقشة ما يمكن تغييره، يعكس غيتس انفتاح بعض الرأسماليين الأميركيين على مناقشة دور الدولة والضرائب في الاقتصاد الأميركي من منظور مختلف عن السائد اليوم. على الرغم من صحّة قول أحد المعلّقين على هذه المقابلة: «يبدو أن النقاش حول الاشتراكية هو شيء جيّد، إذا كان كل شيء يبقى على حاله ويبقى النظام البلوتوقراطي من دون أن يُمس».
أنجل بوليغان ــ المكسيك

في مقارنة مع لبنان، فإن رسالة كهذه لم تصل بعد، بل هناك نوع من التوافق بين الرأسماليين أو «ممثّلي القطاع الخاص» على عدم إبداء أي استعداد لمناقشة تغيير أيّ متغيّر من الرأسمالية اللبنانية، وخصوصاً في موضوع الضرائب على عوائد الرأسمال، لا إذا كان ذلك بهدف تحقيق قدر أكبر من المساواة، ولا إذا كان بهدف بناء البنية التحتية وتقديم الخدمات الأساسية من قِبَل الدولة. وكل هذا يتمّ بغطاء كثيف من النار الاستباقية حول عدم كفاءة الدولة في مقابل كفاءة القطاع الخاص، وحول الإنفاق غير المُجدي للدولة والعجز المالي وعدم جواز وضع الضرائب على القطاع الخاص الذي «يُنتج الوظائف»، وغيرها من الأمور التي تُقْفل باب النقاش قبل أن يُفتح. وقد زاد منسوب هذا الهجوم من قِبل البعض في الحكومة الجديدة، وبدأوا بالتبشير بمجيء عصر القطاع الخاص إلى الدولة. وتعمّق الحديث أيضاً عن أن أزمة الدولة المالية وعدم تمكّنها من تلبية الخدمات العامة، هي أمور من «خاصية» القطاع العام، وبالتالي يأتي القطاع الخاص اليوم مُنقذاً عبر الخصخصة والشراكة. هكذا، بطروحات عدّة بسيطة، يحاول الرأسمال أن يستعيد سيطرته على الخطاب الاقتصادي مدعوماً من جهة من سيدر وماكنزي، ومن جهة أخرى من غولدمان ساكس وموديز؛ فالمجموعة الأولى تلعب على آمال اللبنانيين والثانية على مخاوفهم. ولكن الأمور أعمق من ذلك بكثير.
أوّلاً، الضريبة التصاعدية العالية على المداخيل ليست أمراً سيّئاً كما يُشاع بالنسبة إلى الاستثمار والنمو الاقتصادي. بل على العكس، فالضرائب العالية تاريخياً في الولايات المتّحدة تزامنت مع النموّ والاستثمار العاليين ومع الفترة الذهبية للرأسمالية. وكان بول كروغمان قد بيّن ذلك، والآن يعود هذا النقاش إلى الاحتدام، بعد طرح النائبة الديموقراطية اليسارية ألكسندرا كورتيز مشروع وضع ضريبة حدّية بمعدّل 70% على المداخيل التي تفوق العشرة ملايين دولار. كما أن الضرائب العالية هي مساوية للتطوّر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وبالتالي يكفي إلقاء نظرة سريعة من دون إبداء أي تعليق إلى الدول ذات المعدّلات الضريبية العالية (السويد والدانمارك على سبيل المثال) في مقابل الدول المتدنية المعدلات (مثل دول الخليج، والدول الجزر). إذاً، الضرائب ليست، كما يطرحها البعض، أمراً «عقابياً» على «المستثمرين» أو موجودة لأن الدولة هي مجموعة من السياسيين الذين يريدون «استغلال» سلطتهم، بل هي أساسية في التفريق بين المجتمعات المتطوّرة وبين تلك المتأخّرة. في هذا الإطار، قد يقول البعض إن الدولة في لبنان لا تقدّم الخدمات والتأمينات وغيرها، وبالتالي لا يحقّ لها وضع أو زيادة الضرائب الآن. هذا الرأي ينتهي دائماً في دوّامة أولوية البيضة (الضرائب) أو الدجاجة (الخدمات). لكن في هذه الحالة، من المؤكّد أن الضرائب يجب أن تأتي قبل الخدمات.
ثانياً، الإنفاق الحكومي في لبنان هو دعم للقطاع الخاص أكثر منه دعماً اجتماعياً أو إنفاقاً مهدوراً. فالدولة في لبنان لا تملك وسائل الإنتاج إلّا في أمور مُحدّدة. وبالتالي يأتي الإنفاق على الصحّة كمدخول للقطاع الصحّي الخاص من مستشفيات وأطباء ومؤسّسات هذا القطاع. كذلك ينتهي جزء من الإنفاق على التعليم، من خلال المِنَح التعليمية، في موازنات المدارس والجامعات الخاصة. وهناك بنود أخرى، كالإنفاق على المقاولات والتلزيمات (مثلاً النفايات) وإدارة الاتصالات، التي كلّها هي أيضاً مداخيل للقطاع الخاص. أخيراً وطبعاً ليس آخراً، يأتي «ملك دعم القطاع الخاص» ألا وهو إنفاق الدولة على خدمة الدَّين العام البالغة اليوم نحو 5 مليارات دولار كمدخول واضح لا لبس فيه للمصارف والرأسمال المالي (هنا وبشكل عجائبي تأتي الدجاجة حتى بلا بيضة!). أخيراً، ولتبيان مدى أهمّية هذا الإنفاق في دعم القطاع الخاص، يمكن لأيّ شخص إجراء محاكاة ذهنية سريعة لمدى تأثير توقّف هذه التدفّقات المالية الكبيرة على أرباح القطاع وحتّى على بقائه. وهذا ما بيّنه هايمان مينسكي في تحليله، إذ عندما تنخفض أرباح القطاع الخاص، يكون إنفاق الدولة هو شبكة الأمان له.
ثالثاً، القطاع الخاص في لبنان لا يمكنه أن يدّعي التفوّق على الدولة من ناحية الكفاءة. ربّما في بلد غير لبنان قد يصحّ هذا الأمر، أمّا في لبنان فلا. فقد بَيّنْتُ سابقاً أن القطاع الخاص هو في وضع سيئ جدّاً من ناحية الإنتاجية والتنافسية والابتكار. لكن هذا ليس كل شيء، فأيضاً هناك أمر أكثر شؤماً (sinister) يحدث اليوم. إن القطاعات العامة (مثل الكهرباء والاتصالات) التي يريد القطاع الخاص «مشاركة» الدولة بها هي ذات إنتاجية عالية للرأسمال، وبالتالي سيحقّق الرأسمال الخاص أرباحاً عالية منها. وهكذا يحدث تقسيم العمل بين الدولة والقطاع الخاص بإبقاء القطاعات ذات الإنتاجية المتدنّية والأسعار العالية، كالصحّة والتعليم، مموّلة ومدعومة من الدولة، وباستيلاء القطاع الخاص على القطاعات العامة ذات الإنتاجية والأرباح العالية. بالتالي، يكون القطاع الخاص وضع نفسه في حالة ربح-ربح (win-win) مع الدولة!
رابعاً، إن القطاع الخاص عندما يصل إلى السلطة مباشرة، إمّا يخدم القطاع الخاص بالطبع و/ أو يخدم أسوأ ما في الدولة. في هذا الإطار، قال وزير الاتصالات محمد شقير في مقابلة معه إنه سيحاول تخفيض أسعار الاتصالات بشرط الإبقاء على واردات الدولة. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: أليست واردات الدولة في الاتصالات هي ناتجة عن أسعار احتكارية من دون الأخذ بالاعتبار رفاه المستهلك (consumer welfare) الذي يجب أن يكون هدف الخدمات العامة (public utilities)؟ بالتالي فإن هدف التسعير يجب ألا يكون الحفاظ على واردات الدولة وإنّما رفاه المستهلكين. وهو ما يجعل هذا القطاع، على الرغم من ادّعاء العكس، أسوأ ما في الدولة. كما في ظل ما يحكى عن خطّة بيع 40% من موجودات وزارة الاتصالات و«أوجيرو» إلى القطاع الخاص، فإن الحفاظ على أسعار مرتفعة وبيع القطاع سيؤدّي إلى «تأبيد» هذه الأسعار لأنها ستدخل في حسابات تسعير هذه الأصول (طبعاً إذا بيعت هذه الأصول بقيمتها الحقيقية)، خصوصاً إذا كانت الأسعار قد وصلت إلى حدّ، لن يؤدّي خفضها إلى زيادة الاستهلاك بشكل يوازي انخفاضها، وبالتالي يؤدّي إلى انخفاض المداخيل، وهذا لن تقبل به الشركات الشارية. عندها يُصبح المستهلك بين مطرقة الشركة الخاصة التي تريد أن تعظّم ربحها وسندان الدولة التي تريد أن تعظّم وارداتها. أخيراً، إن مقارنة الوضع في لبنان مع وضع قطاع الاتصالات في أثيوبيا التي تستعمل الفائض المُحقّق فيه لتمويل سياساتها الصناعية، يرينا أن المعضلة ليست في الدولة عموماً، بل في العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص في لبنان.
خامساً، إن سيطرة القطاع الخاص على القطاع العام يؤدّي في لبنان إلى متلازمة اختلال وظيفي (dysfunctional syndrome) أو واقع مرير (dystopia) يمتدّ إلى فضاءات واسعة في المجتمع من ظاهرة التبرّع من قِبل القطاع الخاص لبناء بعض البنى، كما حصل بعد حرب 2006، والسيطرة على الفضاء العام من قِبل المصارف وغيرها من المؤسّسات، عبر التبرّع لإنشاء حدائق أو معالم أو حتّى «شراء» مقاعد في الأماكن العامة. كما تظهر في أسطورة «منع الجيش من التسلّح» والاعتماد على المساعدات الخارجية (والخلافات الأخيرة عليها خير دليل على ذلك)، وتَرَكُّز الإنفاق على العديد وليس على الرأسمال العسكري، وكل ذلك بسبب عدم الرغبة في وضع الضرائب وتمويل الإنفاق الدفاعي منها. كما يظهر في حلول دولة المياومين والمتعاقدين مكان الدولة النظامية التي كانت قبل الحرب.
إن الهجوم المُتصاعد على الدولة اليوم ليس لإنهائها، لأن بانتهائها هم ينتهون أيضاً. وليس لأنها دولة الرعاية الاجتماعية ولا دولة اشتراكية، حتّى على النمط الديموقراطي الاجتماعي، الذي شنّ الرأسمال الهجوم عليها في بريطانيا في ثمانينيات القرن الماضي، بل هو هجوم لمنعها من وضع ورفع الضرائب على الثروة وعوائد الرأسمال، ومن أجل فرض السيطرة على القطاعات ذات الإنتاجية العالية تحت شعارات الخصخصة والشراكة، ومن أجل إبقاء القطاعات ذات الإنتاجية المتدنّية داخل الدولة، ومن أجل الإبقاء على دعم القطاع الخاص والقطاع المصرفي. هذه هي الدولة التي يريدون، وهي التي ينبغي على اليسار ألّا يدافع عنها.