وفق صندوق النقد الدولي، بلغ حجم الدين حول العالم نحو 225% من الناتج المحلّي العالمي، تتوزّع بين: دين للقطاع الخاص (شركات وأفراد) توازي 150% من الناتج المحلّي العالمي، ودين للقطاع العام بنحو 75% من الناتج المحلّي.في الواقع، لم يخفِ صندوق النقد، في تقرير «الراصد المالي» السنة الماضية، مخاوفه من هذه المعدّلات التي لم تشهدها الدول النامية منذ أزمة الديون السيادية في ثمانينيات القرن الماضي، ولا الدول المتقدّمة منذ الحرب العالمية الثانية.
هذا الحجم المُقلق من ارتفاع الدين العالمي ونسبته إلى الناتج المحلّي، يتوزّع بين الدول النامية والمتقدّمة وبين القطاعين العام والخاص. وأحد العوامل التي دفعت بهذه المعدّلات صعوداً، كان ارتفاع مديونية حكومات الدول النامية، بشكل كبير، خلال السنوات التي تلت الأزمة المالية عام 2008. فبين عامي 2010 و2017، ارتفعت مديونية حكومات الدول النامية نسبة إلى ناتجها المحلّي من 38% إلى 50%، أي بنحو 32%.
لا تختلف مديونية الحكومة في لبنان عن هذا السياق، فهي ارتفعت من 137% إلى 150%، وفق صندوق النقد الدولي. علماً أن هذه الأرقام، بالنسبة إلى الدول النامية ولبنان، لا تشمل إجمالي دين القطاع العام بل الدين الحكومي حصراً، إذ إن احتساب مجمل دين القطاع العام يتطلّب احتساب ديون إضافية تشمل التوظيفات والمطلوبات لدى المصارف المركزية والمؤسّسات العامة الأخرى.

عملياً، يأتي هذا المسار التصاعدي في مديونية حكومات الدول النامية نتيجةً لتحوّلات عدّة على المستوى العالمي. إن انطلاق المصارف المركزية في الدول المتقدّمة في خططها للتعامل مع تبعات الأزمة المالية عام 2008، وتوسّعها في خلق الائتمان والنقد وتوفير التمويل بكلفة متدنّية، شكّلا حافزاً لحكومات الدول النامية وشركاتها للتوسّع في الاستدانة والاستفادة من التدفّقات النقدية الأجنبية بكلفة متدنّية نسبياً. وبموازاة ذلك، وجدت الرساميل الأجنبية في أدوات الدين السيادي في الدول النامية ملاذاً آمناً للتوظيف بعد الأزمة التي طاولت المصارف والأسواق المالية والعقارية في العالم.
بالإضافة إلى ذلك، أسهم خفض الولايات المتّحدة واليابان وأوروبا نسب فوائدها على السندات والودائع بمستويات قياسية في تعزيز هذا المسار، ما جعل الاستثمار في هذا النوع من التوظيفات قليل العائد، دافعاً المستثمرين إلى الاتجاه نحو الأسواق الناشئة للتوظيف في سندات الدين وغيرها من الأدوات الاستثمارية طمعاً في هامش ربح أعلى.
نتيجة لذلك، استفادت الأسواق الناشئة منذ عام 2008 من طلب مرتفع على سندات دينها وتدفّقات نقدية مرتفعة، وهو ما رفع مديونية دولها بهذا الشكل المطّرد.
اليوم انقلبت الآية، مع عودة معدّلات النموّ السريع إلى الولايات المتّحدة ورفع معدّلات الفائدة فيها، وبالتالي استعادة الدولار لقوّته، مع ما يعنيه ذلك من وجود ضغط باتجاه عودة الرساميل إلى الولايات المتّحدة من جهة، ودفع الفوائد على الديون الحكومية صعوداً من جهة أخرى.
هذه التطوّرات بدأت تطرح أسئلة جدّية عن الأثر المترتب عن خدمة الدين في هذه الدول واستدامة الدين نفسه، وخصوصاً في الدول التي تعاني من ارتفاع نسبة دينها بالدولار مثل الأرجنتين وتركيا، أو تلك التي تملك معدّلات مرتفعة من الملكية الأجنبية للسندات الحكومية مثل جنوب إفريقيا وإندونيسيا.
في الخلاصة، ثمّة عوامل اقتصادية خاصّة بكل بلد تتحكّم بطبيعة دينه الحكومي وخدمته، لكن هناك مسارات تحكّمت طوال الفترة الماضية بتوجّهات المستثمرين على مستوى العالم، وكان لبنان جزءاً منها. من هنا، لا يبدو أن هناك فرادة في أزمة المديونية لدينا واستدامتها وارتباطها بالأزمة المالية القائمة.