كل التقارير الصادرة عن لبنان في عام 2018، ركّزت على ابتلاء الاقتصاد اللبناني بما يُسمّى «العجز التوأم»، أي تلك الظاهرة التي يترافق فيها تنامي عجز المالية العامّة مع تنامي عجز الحساب الجاري. وعلى رغم أن النظرية الاقتصادية الشائعة ليست واثقة من أن العجز الأوّل هو المسبّب للعجز الثاني، إلّا أن إعادة اكتشاف هذه الظاهرة، في ظلّ تفاقم أزمة تمويل النموذج الاقتصادي اللبناني، حرّكت الدعوات إلى تقليص القطاع العامّ بصفته العلاج السحري لأزمة القطاع الخاصّ! وهذا ما سيتمحور حوله «الخطاب الإصلاحي» للعام 2019، تحت عنوان «التقشّف».
حتى لا تبدو المسألة كطلاسم يصعب فهمها، سنحاول تبسيطها إلى أقصى حدّ:
كلّ عمل يقوم به المقيمون في بلد ما، يمثّل في الحصيلة مجموع دخلهم الأوّلي المُحقّق سنوياً (أي الأجور والأرباح وريوع الملكية والفوائد وعوائد الأسهم)، ويُطلق عليه اسم «الناتج المحلّي الإجمالي»، ويفترض أن يكون ناتج هذا العمل كافياً كلّ سنة لتمويل الاستهلاك الخاصّ (إنفاق الأسر) والاستهلاك العامّ (إنفاق الدولة) وتكوين رأس المال (أي استثمارات القطاعين العامّ والخاصّ). وبالتالي، يفترض أن يكون الناتج السنوي كافياً لشراء السلع والخدمات الضرورية والكمالية، المُنتجة محلّياً والمستوردة من الخارج (تمويل العجز التجاري). بانتظار إحصاءات أكثر وضوحاً لحصيلة عام 2018، سنعتمد على الحسابات القومية لعام 2017، الصادرة أخيراً عن إدارة الإحصاء المركزي، لتوضيح المسألة بالأرقام، وسنفترض أن الاتجاه ازداد سوءاً في عام 2018.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

تخبرنا الحسابات القومية، أن المقيمين في لبنان أنفقوا نحو 56 مليار دولار لتمويل استهلاكهم النهائي (87.5% لاستهلاك الأسر و12.5% لاستهلاك الحكومة)، وأنفقوا أيضاً نحو 10.5 مليار دولار لتكوين رأس المال (92% عبر القطاع الخاصّ و8% عبر القطاع العامّ). أي أنهم احتاجوا إلى 66.5 مليار دولار في عام 2017 للإنفاق على الاستهلاك والاستثمار، إلّا أن ناتج عملهم السنوي المُحقّق في داخل لبنان لم يتجاوز 53.4 مليار دولار، ما يعني أن الاقتصاد اللبناني لا يولّد دخلاً كافياً ليمدّ المجتمع بالسلع والخدمات التي يستهلكها، وهو احتاج إلى أكثر من 13 مليار دولار فوق ناتج العمل السنوي لتمويل العجز بين ما استورده المقيمون من سلع وخدمات مُنتجة في الخارج (26 مليار دولار) وما صدّروه من سلع وخدمات مُنتجة في الداخل (13 مليار دولار). وفق هذه الحسابات، يزيد الاستهلاك العامّ والخاصّ عن الناتج المحلّي الإجمالي (105%)، في حين يقلّ الاستثمار العامّ والخاصّ عن 20% من هذا الناتج، أمّا العجز التجاري (سلع وخدمات) فيساوي 25% من الناتج المحلّي. وهذه النسب تشير إلى المعضلة الأهمّ في النموذج الاقتصادي اللبناني، الذي ترسّخ على مدى ربع قرن بعد اتفاق الطائف، فلكي يستمرّ هذا النموذج، عليه أن يكون قادراً على تأمين ما يوازي ربع الدخل المُحقّق في الاقتصاد اللبناني سنوياً من مصادر خارجية، سواء عبر الديون أو التحويلات أو الاستثمارات المباشرة، وهذا ما يُعبّر عنه الحساب الجاري، الذي يصف حصيلة التعاملات بين المقيمين في البلد والمقيمين خارجه.
تشكّل الاقتصاد السياسي للنموذج اللبناني على قناعة غريبة بأن التدفّقات الخارجية إلى لبنان يمكن أن تستمرّ بالنموّ إلى ما لا نهاية، وبما يغطّي الحاجات التمويلية السنوية للمقيمين في لبنان، وتمّ التعامل مع ذلك كما لو أنه لا يرتب أكلافاً أو أن هذه الأكلاف قابلة للتحمّل مهما بلغت. في الواقع، توجد طريقتين للتعامل مع عجز الحساب الجاري، فإمّا أن تعمد الدولة إلى التدخّل بقوّة، عبر الاستثمار العامّ والسياسات الضريبية والنقدية، من أجل تعديل بنية الاقتصاد المحلّي وجعله يعمل ويُنتج وينمو بما يؤمّن الدخل الكافي للمقيمين، أو أن يجري التغاضي عن هذه المسؤولية الكبرى واستسهال تمويل الإفراط في الاستهلاك عبر زيادة المديونية العامّة والخاصّة كبديل من زيادة الإنتاج، وتصدير القوى العاملة كبديل من تصدير السلع والخدمات، وهذه الطريقة هي التي جرى اعتمادها في لبنان على مدى ربع القرن الأخير، وقد أسفر ذلك عن هجرة ما يوازي نصف القوى العاملة في لبنان، في حين قدّر صندوق النقد الدولي أن مجموع الدَين الخارجي المُترتّب على الاقتصاد المحلّي (بما في ذلك ودائع غير المقيمين) تجاوز 200% في هذا العام.
لأسباب كثيرة، استطاعت هذه الطريقة أن تعمل حتى عام 2010، عندما بدأت تظهر عوارض الفشل البنيوي في تمويل حاجات المقيمين عبر زيادة تحويلات المهاجرين والديون الخارجية، فنموّ الناتج المحلّي الإجمالي ضعيف جدّاً، وربّما سيدخل في حالة الانكماش، في الوقت الذي تراجع صافي تحويلات المهاجرين بنسبة النصف، بسبب زيادة إحلال العمالة الأجنبية وارتفاع تحويلاتها إلى الخارج، وتراجعت التدفّقات الخارجية بوتيرة سريعة حتى بلغ عجز ميزان المدفوعات في هذا العام أكثر من 5 مليارات دولار، أي أن التدفّقات المالية الخارجة من لبنان كانت أعلى بهذه القيمة من التدفّقات الداخلة إليه، وهذه الظاهرة المستمرّة منذ عام 2011 لم يشهدها لبنان في تاريخه حتّى في أحلك ظروف الحرب الأهلية والحروب الإسرائيلية.
ما نواجهه الآن تحت عنوان الضغوط على سعر صرف الليرة التي تفرض رفع أسعار الفائدة، وبالتالي كلفة تمويل هذا النموذج، هو التعبير المباشر عن تفاقم هذه الظاهرة منذ تسعينيات القرن الماضي. فهذه الظاهرة ليست جديدة إطلاقاً، وبالتالي لم نكن بحاجة إلى إعادة اكتشافها، بقدر ما نحتاج إلى إعادة تعريفها، بوصفها أزمة قطاع خاصّ، يُحقّق الأرباح من تشجيع الاستهلاك والريع، لا سيّما ريع الفوائد والملكيّة العقارية، وبالتالي لا يولّد الدخل الكافي ولا فرص العمل، فضلاً عن أنه يزداد تركّزاً لدى عدد ضئيل من الناس. المشكلة التي نواجهها في عام 2019 تكمن تحديداً في أن إعادة اكتشاف ما يُسمّى «العجز التوأم»، ليست إلّا محاولة جديدة لنقل الأزمة إلى القطاع العامّ وتحميلنا مجدّداً الكلفة، عبر تصوير هذه الأزمة على أنها أزمة عجز مالي سببه الدولة وإنفاقها العامّ، ولا الاقتصاد السياسي الذي سخّر الدولة والاقتصاد في خدمة الأقلّية السعيدة.