الحديث عن «الأزمة» لم يعد يدور حول وجودها أو عدم وجودها، بل بات يدور حول الخسائر التي ترتّبها ومن هم الذين يتحمّلونها.يسود قلق واسع الآن من أن الأزمة الراهنة ستطيح القدرة الشرائية للكثير من الأسر، وترمي بها إلى براثن الفقر، وتدفع المزيد من الشباب إلى البطالة، في ظل انسداد مسارب الهجرة الخارجية وفشل النموذج الاقتصادي القائم في خلق الوظائف والمداخيل الكافية لاستعادة التوازن والاستقرار.
في المؤشّرات، أعلن وزير المال علي حسن خليل، في جلسة مجلس النواب في الشهر الماضي، أن احتياطي الموازنة العامّة قد استُنزف كلّياً، و«لم يعد يوجد فيه ليرة واحدة»، وهذا مؤشّر بالغ الخطورة والدلالة، ويعني قبل أي شيء أن الحكومة (وهي أصلاً حكومة تصريف أعمال) لم تعد تمتلك أيّ مال احتياطي لمواجهة أي احتياجات طارئة. قبل هذا التصريح الخطير، كان البنك المركزي قد توقّف تماماً عن الاكتتاب في إصدارات سندات الخزينة، وأدّى ذلك إلى استنزاف حساب الخزينة لدى مصرف لبنان (الحساب 36)، وأدّى أيضاً إلى الضغط على إدارة صندوق الضمان الاجتماعي لزيادة قيمة اكتتاباتها في هذه السندات من أموال المضمونين في فرع تعويضات نهاية الخدمة، وبالتالي زيادة تعرّضها لمخاطر سعر الصرف والتوقّف عن السداد. وفي هذا السياق أيضاً، أبلغ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، رئيس الحكومة ووزير المال، في الاجتماع الذي جمعهم في الشهر الماضي أيضاً، أنه لم يعد قادراً على ضمان تمويل العجز المالي في الأشهر المقبلة، إلّا ضمن حدود إنفاق الدولة على الرواتب والأجور وتسديد فوائد الديون المحلّية والخارجية فقط لا غير، وأن أولوياته محصورة حالياً بسحب السيولة من التداول وضبطها، «لأن كل ليرة تُضَخّ في السوق تعود إليه على شكل طلب إضافي على الدولار، وهذا يساهم باستنزاف الاحتياطي بالعملات الأجنبية، ويزيد الضغوط على سعر الصرف». ليس هذا فحسب، بل شكّك سلامة بقدرة المصارف التجارية على الاكتتاب في سندات الخزينة، حتى ولو رُفعت أسعار الفائدة، «لأنها لا تمتلك السيولة الكافية، ولأن الودائع لديها لا تنمو بمعدّلات كافية لمواصلة تمويل العجز في المالية العامّة وإقراض الشركات والأسر». وفي مطلع هذا الشهر، أعلن حاكم مصرف لبنان أنه اتفق مع وزير المال على رفع سعر الفائدة على سندات الخزينة، مشيراَ إلى أن السعر الجديد لن يقلّ عن السعر الذي يدفعه مصرف لبنان للمصارف (10.5% على استحقاق 10 سنوات)، وهذا يعني زيادة كلفة خدمة الدين العام بوتيرة أكبر ممّا شهدناه في السابق، من دون أن يعني ذلك أن تمويل العجز أصبح مُتاحاً.
هذا على صعيد المالية العامّة. أمّا على صعيد الوضع النقدي، فإنّ البنك المركزي يطمئن إلى أنه قادر على الدفاع عن سعر الليرة الثابت لسنة أو أكثر قليلاً، أمّا بعد ذلك فالأمور ليست مضمونة. فقد نجح مصرف لبنان بالاحتفاظ بموجودات سائلة بالدولار (34.1 مليار دولار في أيلول/ سبتمبر الماضي)، ولكنها أقل بنحو 1.6 مليار دولار عن الفترة نفسها من العام الماضي، وحدّ كثيراً من السيولة المُتاحة وأطال استحقاقات الودائع، أي إنه بات يضع يده على قسم مهمّ من الودائع ويحبسها في دفاتره. إلا أن كلفة ذلك كانت عالية جدّاً، بل غير قابلة للتحمّل، إذ ارتفعت أسعار الفائدة الفعلية إلى معدّلات كابحة لأي استثمار، ما أدّى بالتالي إلى انخفاض التسليفات للقطاع الخاصّ المقيم، وارتفاع مديونية مصرف لبنان إزاء المصارف، ويقدّر أنّ الاحتياطي الصافي بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان بات سلبياً بأكثر من 20 مليار دولار. وسجّل ميزان المدفوعات الخارجية في هذا العام عجزاً حقيقياً بقيمة 4.8 مليارات دولار حتى شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، وبلغ العجز المتراكم منذ عام 2011 نحو 14.8 مليار دولار، ما يعني أن الأموال التي خرجت من لبنان أعلى بهذه القيمة من الأموال التي دخلت إليه، ولم تعد التدفّقات والتحويلات الخارجية تكفي لتمويل الاستيراد المتنامي والانفاق الحكومي وقروض الاستهلاك والسكن.
وفي ضوء هذه المخاطر المرتفعة، عمد البنك الدولي، في تقريره الأخير عن لبنان، إلى خفض توقّعاته لنمو الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي لعام 2018 إلى 1%، في الوقت الذي أعلنت إدارة الإحصاء المركزي أنّ النمو الحقيقي في العام الماضي لم يتجاوز 0.6%. ومن جهته، لا يزال صندوق النقد الدولي يمتنع عن نشر تقرير المادة الرابعة عن لبنان بناءً على طلب السلطات اللبنانية، على الرغم من أن مشاوراته اختتمت في أيار/ مايو الماضي وصدر بيان مجلس التنفيذي في حزيران/ يونيو، الذي توقّع ارتفاع مجموع الدين الخارجي (بما فيه ودائع غير المقيمين) إلى 202% من مجمل الناتج المحلّي في هذا العام، وانخفاض مجمل الاحتياطات الأجنبية (ما عدا الذهب والأصول المحمّلة بالتزامات) من ما يوازي تغطية 14 شهراً من واردات السلع والخدمات في العام الماضي إلى 5 أشهر فقط في عام 2023.
في مواجهة كل هذه المؤشّرات الخطيرة، تثبت «السلطة»، مرة أخرى، عدم أهليّتها لإدارة الأزمة التي نعيش فيها، بل هي تمعن في تعريضنا لخسائر فادحة يمكن تفاديها أو التحوّط لها قبل وقوعها. وهي لا تكتفي بشراء وقت مكلف جدّاً، بل تقوم بتدفيعنا الثمن وتجيّره أرباحاً فاحشة إلى «القلّة» التي تستأثر بالحصّة الأكبر من الدخل والثروة وتهيمن مصالحها على مصالحنا جميعاً.
تتعمّد هذه السلطة إثارة القلق لتفعل ما تفعله. قبل فترة وجيزة، أجّجت مشاعر عدائية ضدّ اللاجئين السوريين لتخترع متطفّلاً خارجياً تحمّله مسؤولية الأوضاع المتردية التي وصلنا إليها، ومن ثمّ روّجت نظريات المؤامرة الخارجية التي تستهدف «الليرة» لتبرّر الهندسات المالية، التي توسّع نطاقها كثيراً منذ عام 2016 وأسفرت عن نقل مليارات الدولارات من المال العامّ إلى المصارف وكبار مودعيها. وعلى الرغم من فداحة الخسائر المحقّقة والمتوقّعة، ها هي «السلطة» تخبرنا اليوم أنّ الازمة قائمة بالفعل، وهي ليست مجرّد شائعات، وأن علينا تسديد خسائرها لصالح أولئك الذين جنوا الأرباح والثروات طوال ربع القرن الماضي.
فقد خرجت أصوات من داخل السلطة ومن الهيئات الاقتصادية تدعو إلى خفض أجور العاملين في القطاع العامّ لخفض العجز المالي. وطالب البعض بالعودة إلى سياسة تجميد الأجور لدعم الأرباح في القطاع الخاصّ. وأمعنت السلطة في عملية وضع اليد على تعويضات المضمونين، وتحويلها إلى خطّ الدفاع الأوّل عن الليرة، وجرى التصرّف بهذه الأموال كما لو أنها سائبة لا أصحاب لها، ولا داعي لتوفير أيّ حماية أو ضمانة لها، فيما هي تخصّ 480 ألف مضمون لا يزيد متوسّط تعويض الواحد منهم على 15 ألف دولار فقط. ويجري إغراء الكثير من صغار المودعين بفوائد مرتفعة لإبقاء ودائعهم بالليرة وتجميدها لفترات طويلة، ويتحدّث الكثير من زبائن المصارف عن قيود تفرضها المصارف للحدّ من قدرتهم على التحويل من الليرة إلى الدولار أو من لبنان إلى الخارج. وكان البنك المركزي قد توقّف في مطلع هذا العام عن دعم فوائد القروض السكنية بهدف ضبط السيولة بالليرة والحدّ من الطلب على الدولار، وسدّ بذلك آخر المنافذ الباقية أمام شريحة واسعة من الشباب للحصول على المساكن، بعدما سدّت قبل ذلك كل المنافذ الأخرى ما عدا الرهون العقارية والديون الشخصية، التي استنزفت أصلاً مداخيل الأسر وأرهقتها. وكذلك، أعلنت السلطة نيّاتها فرض سياسات تقشّفية جديدة تقوم على نقل الكلفة من الموازنة العامّة إلى ميزانيات الأسر. فقد التزمت الحكومة في مؤتمر «باريس 4» خفضَ العجز المالي بنسبة 1% من الناتج المحلّي القائم سنوياً على خمس سنوات، أي بما يوازي خفضاً بقيمة 3 مليارات دولار من الإنفاق العامّ من دون المسّ بخدمة الدين العامّ. وتعهّدت بأنها لن تمسّ الدين ولن تقصّ شعره، في المقابل تعهّدت بأن تقصّ شعرنا جميعاً، فهي التزمت إلغاء الدعم لأسعار الكهرباء، وخصخصة معامل الإنتاج والتوزيع، وبالتالي نقل أكثر من ملياري دولار من الإنفاق العام، أو الضرائب، إلى الأسر التي عليها أن تسدّد الكلفة مباشرة عبر الأسعار. كذلك التزمت قضمَ معاشات التقاعد، التي تسمح لآلاف الأسر، ولا سيّما كبار السن، بعدم الانجراف إلى الفقر المُدقع ومخاطر المرض. والتزمت أيضاً زيادة الضرائب على الاستهلاك لزيادة الإيرادات وإبقاء معدّلات الضرائب على الدخل والأرباح المنخفضة لجذب الاستثمارات الخاصّة. كما تعهدت بتقليص القطاع العام وصرف الكثير من الموظّفين والمتعاقدين والمياومين ورميهم إلى مصيرهم المجهول بلا عمل أو ضمان صحّي أو حماية اجتماعية.
باختصار، يجري طرح إجراءات ترمي إلى تركيز الخسائر على الفئات الاجتماعية الأكثر ضعفاً والأقل دخلاً، بحجّة تنفيذ «الإصلاحات» المطلوبة لتخفيف آثار الأزمة، في حين أن المدخل إلى أي بحث في توزيع الخسائر لا يكمن في هذا النوع من «التقشّف» الظالم، كما هو مطروح، بل في تغيير النظام الضريبي، ووضع الضرائب على رأس المال المالي والثروة الشخصية والريوع والمداخيل العالية.
لقد أظهرت جميع التقارير والمقارنات، بما فيها تقارير صادرة عن مصارف لبنانية كبيرة ومؤسّسات مالية مختلفة، أن العبء الضريبي قياساً إلى الناتج المحلّي الإجمالي متدنٍ جدّاً، وهو مركّز بشكّل كبير على الطبقات الوسطى، ولا سيّما الضرائب على استهلاك الأسر. كما أظهرت وجود تهرّب ضريبي واسع يقدّر بمليارات الدولارات سنوياً، فضلاً عن إعفاءات ضريبية بالجملة والمفرّق وتسويات وإعفاءات من الغرامات... وبالتالي، ليس مقبولاً أن تنحصر الطروحات الحالية باستهداف الفئات الضعيفة والسعي إلى تحميلها الخسائر وحدها.
المعضلة الجدّية أن أحداً لا يمثّلنا على طاولة المساومات الجارية، وهذا وحده كافٍ لتعظيم مخاوفنا وتشاؤمنا.