«إن سياسات ومشاريع العسكريتارية والإمبريالية وسياسات الصراعات العنصرية والثقافية وسياسات الاحتكارات والقيود والاستبعاد التي ستُدخل الأفعى إلى جنّته، لم تبدُ له إلّا نوعاً من الترفيه في جريدته اليومية» جون ماينارد كينز

في اجتماع الدول العشرين في الأرجنتين، كان واضحاً أن الأميركيين يستمرّون في الانعزال أكثر فأكثر عن العالم. فسياسة ترامب «لنجعل أميركا عظيمة مرّة أخرى» أضحَت وكأنّها «لنجعل أميركا وحيدة مرّة أخرى»، في عودة إلى بعض مراحل الانعزال في تاريخ الولايات المتّحدة. وقد حاولت إدارة ترامب استدراك هذا الأمر بأن أعلنت «هدنة» مع الصين في الحرب التجارية المُستعرة بينهما خلال لقاء الرئيسَين في بوينس أيريس. لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فسرعان ما عيّن ترامب روبرت لايتنيزر، أحد أكثر موظّفي البيت الأبيض انتقاداً للصين، كمسؤول عن المفاوضات التجارية معها من الآن فصاعداً! ولزيادة الطين بلّة، أقدمت السلطات الكندية على اعتقال المديرة المالية لشركة هواوي الصينية على خلفية مذكّرة استرداد أميركية تتّهم الشركة بأنها خالفت مندرجات العقوبات على إيران. إذاً، الحرب التجارية بين البلدين التي تنبّأ القائد السابق للقوات الأميركية في أوروبا بأنها ستتحوّل إلى حرب حقيقية في غضون 15 عاماً، هي ليست مرشّحة للتهدئة بل للتصاعد.
لكن بشكل أعمق، فالحرب التجارية على الصين، التي لا يتوقّعها البعض في الولايات المتّحدة فقط، بل يحلم أن تتحوّل في المستقبل إلى حرب حقيقية، هي أوّلاً صراع كلاسيكي بين دول كبرى حول التجارة وحول الاستثمارات في العالم. فالصراع بين البلدين حول الاستثمار في البنية التحتية في الدول النامية على أشدّه اليوم، ووصلت الصين حتى إلى أميركا اللاتينية، الحديقة الخلفية للولايات المتّحدة، حيث تتصرّف أميركا وفق أحد الدبلوماسيين هناك «كصديق سابق غيّور». وهذا الأمر لم يعتَد عليه العالم منذ الحرب العالمية الثانية، حيث ساد نظام ينظّم العلاقات الاقتصادية الدولية واقتصر الصراع بين المنظومة الاشتراكية والعالم الرأسمالي وعلى رأسه الولايات المتّحدة، ضمن متغيّرات الحرب الباردة التي كانت في الغالب صراعاً أيديولوجياً وعسكرياً على جغرافيا النفوذ في العالم. وهو أمر استطاعت الولايات المتّحدة أن تستوعبه على المستوى الاقتصادي بتفوّقها التجاري والاستثماري، إن لم يكن الصناعي والتكنولوجي. كما أن الاتحاد السوفياتي على الرغم من كلّ القفزات الصناعية والتكنولوجية لم يستطع أن يكوّن ثقلاً اقتصادياً موازناً لأميركا. اليوم أحد أهمّ مؤشّرات الثقل الاقتصادي الصيني هو انتقال مركز الجاذبية الاقتصادي شرقاً نحوها وفق حسابات ثقل الناتج. (أنظر على الخريطة)
وثانياً، فإن الصراع بدأ يأخذ أبعاداً أيديولوجية، إذ إن صعود الصين بدأ يعطي العالم أمثولة أو نموذجاً مغايراً للنموذج الرأسمالي أو الليبرالي الذي ساد العالم منذ ثلاثين عاماً. وهذا ما لم يتوقّع الأميركيون وغيرهم أن يحصل أبداً، وهذا هو الأمر الأكثر إقلاقاً للولايات المتّحدة. فبعد أحداث ساحة تيانانمين في عام 1989، سال الكثير من الحبر من الاقتصاديين وعلماء السياسة وغيرهم حول العالم لبرهنة أو التنبؤ بأنّ النموذج الصيني المُعتمِد على الركيزتين: الأسواق الحرّة والرأسمالية في الاقتصاد وعلى حكم الحزب الشيوعي في السياسة لا يمكنه الاستمرار؛ فإمّا تفوز الأسواق وينتهي الحكم الشيوعي وتنتقل الصين إلى الرأسمالية (مع أمل أن تصبح رأسمالية استهلاكية أو على الأكثر رأسمالية شبيهة بالهند التي كثير من المنظرين نفسهم اعتبروا أنها ستكون الفائز في السباق لأنها تجمع بين الأمرين، الأسواق والديموقراطية!)، وإمّا ينتصر الحزب الشيوعي وتعود الصين إلى سابق عهدها مع اقتصاد متخلّف وغير قادر على المنافسة مع الدول الرأسمالية (وهذا ما أراده أيضاً بعض الماركسيين والشيوعيين المتطرّفين). اليوم لم يحصل ما كان يتوقّعه هؤلاء. في مقالة في نيويورك تايمز في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي بعنوان «البلاد التي فشلت في أن تفشل» يقول الكاتب فيليب بان إن «الغرب كان متأكداً أن المقاربة الصينية ستفشل وأن ما عليه إلا الانتظار. وهو ما زال ينتظر!».

فماذا حصل؟
أوّلاً، اعتقد كثيرون أن الصين، حتى لو تقدّمت اقتصادياً، فإنها على الأكثر ستأخذ مكانها «الطبيعي» نسبة إلى الاقتصادات في العالم، أو كما يقول البعض ستبقى في وضع «تبعي». وهنا اعتمد البعض على أطروحة يمكن تسميتها أطروحة «خطّ الدفاع الأوّل» المبنيّة على أن الصين باعتمادها على التصدير إلى الولايات المتّحدة، وبالتحديد سلعاً رخيصة وغير متقدّمة تكنولوجياً وباعتمادها على الرأسمال الخارجي للاستثمار، ستكون في مهبّ ريح المتغيّرات الخارجية وتحت سيطرة الدول الرأسمالية الكبرى. يمكن تلخيص هذا الأمر بما قاله جورج سوروس: «إن الشيوعية في الصين ستنتهي بأزمة رأسمالية». لكن اليوم، أصبحت الصين خارج هذا التهديد، فمرّت أزمة 2008 الكبرى من دون آثار تُذكر، كما أصبح المحرّك الاقتصادي الداخلي هو أساس الاقتصاد الصيني، حيث تنتقل الصين إلى الاعتماد أكثر على الاستثمارات الداخلية وعلى الاستهلاك، وهذا مرشّح للاستمرار والتصاعد في المستقبل.
ثانياً، تفكّكَ الفكر الليبرالي الذي كان الخلفية الأيديولوجية لمقولة الفشل، وكأنّ السحر انقلب على الساحر. ففي السنوات العشر الماضية بدا واضحاً أن الوعود التي قطعتها هذه الليبرالية ومشتقّاتها من الطريق الثالث وغيرها لم تتحقّق في الدول النامية ولا في الدول المتقدّمة، وهذا ما وضع حتى المؤسّسات العالمية التي تحكّمت بالاقتصاد العالمي منذ الثمانينيات، كالبنك الدولي وصندوق النقد، في مأزق فكري. وأصبحت في أكثر الأحيان في موقع الدفاع لا الهجوم. وحتى النظريات التي شاعت مؤخراً، ويمكن اعتبارها نسخاً جديدة من الليبرالية، والتي مثّلها كتاب مشهور للاقتصاديَّين دارون آسيميغلو وجيمس روبنسون في عام 2012 «لماذا تفشل الأمم؟»، لاقت مصيرها الصعب في الصين. الكتاب كان قد طرح أهمية «المؤسّسات» في النجاح الاقتصادي للأمم و«برهن» أن دولاً «غير ديموقراطية» أو بالأحرى لا تمتلك مؤسّسات سياسية تضمينية لا يمكن أن تنجح على المدى الطويل. وبالتحديد عن الصين ارتكب آسيميغلو وروبنسون خطأ فادحاً عندما قالا إن «النموّ الصيني ما هو إلّا شكل من النمو في كنف المؤسّسات السياسية الاستخراجية، وهو (بالتالي) لن يؤدّي إلى تنمية اقتصادية مستدامة!».
ثالثاً، على الرغم من أن الحزب الشيوعي الصيني لم يُعلن أبداً التخلّي عن الماركسية، بل وضع منذ البداية الإصلاحات في إطار النظرية الماركسية، إلّا أن الغرب والمشكِّكين لم يصدّقوا أو اعتبروا أن الأمر ما هو إلّا غطاء أيديولوجي مؤقت سيُكشف عنه عاجلاً أم آجلاً. لكن منذ بداية عهد الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ بدا واضحاً أنّ عليهم أن ينتظروا كثيراً. فمعه بدأت مسيرة التأكيد أكثر فأكثر على الماركسية وعلى كون الاشتراكية هي هدف الحزب الشيوعي الصيني. وقد أكّد المؤتمر التاسع عشر للحزب على بناء اقتصاد اشتراكي عصري بحلول عام 2050.
رابعاً، إن تفكّك الفكر الليبرالي لم يكن الحدثَ الوحيد الذي حصل، وإنما بدأت الصين أيضاً تعطي العالم نموذجاً جديداً للتنمية، فالآن بدأ كثيرون يطرحون رمزيّاً «توافق بيجينع» بدلاً من «توافق واشنطن». وفي هذا الإطار، تُشَكِّل مبادرة «الطريق والحزام» التجلّي لهذا النموذج على مستوى العلاقات الدولية. كما أصبحت الكثير من الدول النامية ترى الفرق في التعامل معها بين الولايات المتّحدة التي تتدخّل في شؤونها الداخلية وفي سياساتها وحتى في علاقاتها مع بعضها البعض في إطار من الفوقية والقسرية، وبين الصين التي تبني علاقاتها على مبادئ عدم التدخّل واحترام سيادة الدول. وللمفارقة، هذا النموذج أثار حفيظة البعض في الصين نفسها الذين ظنّوا أن الليبرالية انتصرت هناك بمجرّد أن انتشر تعليم الاقتصاد الليبرالي في الجامعات خلال فترة الإصلاحات. فمؤخّراً هاجم أستاذ الاقتصاد في جامعة بكين زانغ زيوين، المعروف بتأييده المدرسة النمساوية الليبرالية المتطرّفة، فكرة «النموذج الصيني» معتبراً أنه ليس فقط «خاطئ» وإنّما يؤدّي أيضاً إلى «مواجهة مع الغرب».
إن الولايات المتّحدة بشنّها الحرب التجارية لا تتحوّل فقط إلى دولة منعزلة بل إلى دولة كبرى مارقة حيث تستعمل أسلحة كثيرة من الأدوات الاقتصادية وصولاً إلى «حكم القانون» لتهدّد النظام الاقتصادي العالمي. ولكن كما قال داني رودريك فإن الحرب التجاريّة لا تعتمد فقط على الولايات المتّحدة التي تشنّها بل على الدول الأخرى إذا ما قرّرت الردّ عليها. حتّى الآن الصين (وغيرها أيضاً) تحاول أن تحافظ على الاستقرار الاقتصادي العالمي، فمن دافوس إلى بوينوس آيريس، كان الرئيس الصيني واضحاً حول تمسّك بلاده بنُظُم التجارة الحرّة العالمية. فالأمور ليست بتلك السهولة التي يعتمدها ترامب وإدارته، فإطلاق الحرب التجارية بشكل شامل سيعيد العالم إلى فترة شبيهة بتلك ما قبل الحرب العالمية الثانية، التي نرى بداياتها الآن مع صعود الفاشية في أوروبا وأميركا: فهل سيدفع ترامب بالاقتصاد العالمي إلى أزمة مثل أزمة 1929 ونواجه كلّنا ما رأى كينز أن المواطن الأوروبي كان يواجهه في آب/ أغسطس 1914؟ هذا ما يحاول العالم منعه وعلى الأميركيين أنفسهم أن يمنعوه.