ليس مستغرباً أو مفاجئاً أن تخرج أصوات ناعقة، في ذروة «الأزمة» الراهنة، تدعو إلى تخفيض معاشات الموظّفين والمتقاعدين في إدارات الدولة وهيئاتها التعليمية وأسلاكها العسكرية والأمنية والعودة إلى سياسة تجميد الأجور في القطاعين العامّ والخاصّ. ففي كلّ زمان ومكان، عندما يواجه رأس المال مخاطر أو ضغوط أو توقّعات بانخفاض الأرباح أو طروحات بزيادة الاقتطاعات الضريبية المباشرة، سيتحرّك «غربان السوق» ويشيعون الخطاب الإعلامي، الذي يدعو إلى «التقشّف» بوصفه «العلاج» أو «العملية الجراحية» التي لا مفرّ منها للخروج من الأزمات، كلّ الأزمات، من أي نوع كانت.تستند هذه الأصوات إلى «نظرية» شائعة، تعرّف «التقشف» (بسذاجة مطلقة) على أنه تقليص «طوعي» أو «قمع مالي»، يهدف إلى تخفيض الأجور والأسعار والإنفاق العامّ كشروط لاستعادة «التنافسية» و«التوازن» في الاقتصاد والمالية العامّة. وتقوم هذه «الفكرة» كلّها على مقولة دارجة، لا معنى واضح أو محدّد لها، تردّد أن«المهمّ الآن وفوراً هو المحافظة على الثقة»، أي ثقة أصحاب رأس المال أنهم سيواصلون جني المزيد من العوائد المرتفعة والمجزية على توظيفاتهم واستثماراتهم ومضارباتهم ومشاريعهم وتجاراتهم، لأن البديل عن هذه «الثقة» هو الشكّ والهروب وتركنا نواجه وحدنا مصيرنا المشؤوم.
وفق دعاة التقشّف، لا يمكن الخروج من أي أزمة اقتصادية أو مالية أو نقدية، إلّا عبر تقليص حجم الدولة والحدّ من قدرتها على التدخّل في إعادة توزيع الدخل. فالدولة «المتدخّلة» هي «المرض» الذي يجب القضاء عليه في كلّ الأحوال، كونها «تشوّه الأسواق» وتقضي على حوافز المبادرة الفردية. وبرأيهم، أن ارتفاع الإنفاق العامّ هو من عوارض الورم، الذي يؤدّي إلى مزاحمة القطاع الخاصّ على رأس المال نفسه ومصادر التمويل ويزيد العجز المالي والدين ويقلّص الاستثمار المُنتج... وهكذا! من دون إضافة أي شرح أو تعليل يقوم على الربط بين السبب والنتيجة، ومن دون الاضطرار إلى تقديم أي أدلّة تبيّن لنا أين نجح هذا التقشّف؟ وكيف؟ وفي أي ظروف؟ فالأساس الذي تقوم عليه فكرة التقشّف لا يتصل بـ «الأزمة»، أياً كانت، وإنّما هو أساس أيديولوجي يقوم على كره أي نوع من أنواع الدولة، كلّما تجاوز دورها وظيفة حارس (بوليس) رأس المال الخاصّ والداعم له والضامن لربحيته وتراكمه اللانهائي.
بهذا المعنى، سيكون متوقّعاً أن يوصي صندوق النقد الدولي بـ «التقشّف»، كونه ينتمي فكرياً إلى هذه الأيديولوجيا، وسيكون متوقّعاً أكثر أن يتلقّف رئيس غرفة التجارة محمد شقير أو رئيس جمعيّة تجّار بيروت نقولا الشمّاس أو أي مصرفي أو مضارب أو صاحب عمل هذه التوصية وتحويلها إلى مطلب يرمي إلى تخفيض الأجور في القطاع العامّ بذريعة تخفيض عجز الموازنة، وبذريعة أن كلفة سلسلة الرتب والرواتب، التي أقرّت في العام الماضي، لم تكن «محسوبة»، وقد رتّبت أعباء ضخمة غير قابلة للتحمّل... ولكن المستغرب والمفاجئ هو أن يلقى هذا المطلب صدى واسعاً لدى أوساط من المجتمع والنخب، ويجاهر بعض ممثّلي الأحزاب في السلطة بتأييده، كرئيس تيّار المستقبل سعد الحريري ورئيس التيّار الوطني الحرّ جبران باسيل، أو أن يعيد البعض إنتاجه كشرط من شروط «مساومة» مطلوبة أو «تسوية» تاريخية لا بدّ منها لتوزيع الخسائر بين الجميع وتحمّل المسؤولية المشتركة إزاء ما يهدّدنا!
في الواقع، إذا كان «التقشّف» يعني، في آن واحد، تخفيض عجز الموازنة العامّة والدين العامّ وتحفيز النموّ الاقتصادي وزيادة عرض الوظائف وتكبير الدخل... فهو لم ينجح في أي مكان أو زمان جُرّب فيه، بل بالعكس تماماً، فجميع التجارب تفيد أن «التقشّف» يؤدّي إلى أزمات إضافية أشدّ وطأة على الدولة والمجتمع والاقتصاد، ويزيد عدم المساواة ويركّز الدخل والثروة لدى عدد قليل من الناس غير القادرين على استهلاك القسم الأكبر ممّا يجنوه ويستحوذون عليه، إذ إن «التقشّف» يصيب (قبل أي شيء آخر) من يحتاجون إلى إنفاق الدولة لحمايتهم ورفع مستوى عيشهم وتمكينهم وإشراكهم في الناتج الاجتماعي.
هذا على صعيد عامّ، أمّا في حالة لبنان، فالمثل الشائع يقول «من جرّب المجرّب يكون عقله مخرّب». إذ إن الحكومة اللبنانية جرّبت السياسات التقشّفية، بأشكال مختلفة ومتنوّعة، منذ عام 1998 حتّى اليوم، وعمدت إلى تجميد الأجور لأطول فترة في تاريخ لبنان الحديث، منذ عام 1996 حتّى عام 2012، عندما اضطرت إلى تصحيح الأجور في القطاع الخاصّ النظامي، وعام 2017 عندما اضطرت إلى تعديل سلسلة الرتب والرواتب في ملاكات القطاع العامّ وتصحيح معاشات التقاعد. ففي تلك الفترة، أي فترة «التقشّف» و«تجميد الأجور»، بلغ متوسّط العجز في الموازنة العامّة 12% من الناتج المحلّي الإجمالي، وبلغ 17.8% في عام 2001، ووصل الدين العامّ الحكومي إلى ذروة 180% من الناتج المحلّي الإجمالي في عام 2006، أي أنه كان عند مستوى أعلى بكثير من مستواه في نهاية عام 2017 (148.5% من الناتج المحلّي الإجمالي).
ليس صحيحاً أن «فاتورة الأجور» لموظّفي القطاع العامّ كنسبة من الناتج المحلّي الإجمالي مرتفعة بالمقارنة مع دول مماثلة للبنان، وفق اعتراف البنك الدولي نفسه في أحدث تقاريره، الذي يشير إلى أن «التقشّف» (من دون أن يسمّيه بهذا الاسم) أدّى إلى «تخفيض النفقات الرأسمالية العامّة وحدّ من النموّ المحتمل». وأدّى غياب الحيّز المالي إلى جانب الافتقار إلى الميزانيات الرسمية بين عامي 2005 و2016 إلى انخفاض حادّ في الإنفاق العامّ على المشاريع الرأسمالية، إذ بلغ متوسّطه نحو 1.6% فقط من الناتج المحلّي الإجمالي خلال العقد الماضي، «وهو مستوى يقلّ كثيراً مقارنة بالبلدان الأخرى. ونتيجة لذلك، تدهورت شبكة البنية التحتية وجودتها، لا سيّما النقل وإمدادات المياه والكهرباء، وهي خدمات مهمّة لرفاه السكان. وعلاوة على ذلك، أدّى انخفاض الاستثمار العامّ في هذه القطاعات إلى التأخّر في سدّ الحاجات ممّا أدّى إلى انخفاض في النموّ الاقتصادي وتدهور عامّ في الظروف المعيشية».
إذاً، هذا ما يفعله «التقشّف»، وهذا ما جُرّبه لبنان على مدى زمني طويل، فهو أدّى إلى تراجع حصّة الأجور من الناتج المحلّي الإجمالي إلى أقلّ من 25%، وهي من أدنى الحصص على الصعيد العالمي. وأدّى إلى ارتفاع مستوى «الحرمان»، وأدّى إلى زيادة سيطرة نسبة الـ 1% من السكّان على أكثر من نصف الودائع وربع الدخل و40% من مجمل الثروة، في حين أن على 99% من السكّان تدبّر أمرهم بالفتات المتبقي، والذي يتضاءل باطراد.
لا شكّ أن هناك أزمة في «القطاع العامّ»، ولكنها ليست أزمة كلفة أو فاتورة الأجور بل أزمة اقتصاد سياسي. ولا شكّ أن هناك حاجة ملحّة إلى «تسوية» تعيد توزيع الخسائر، ولكن مدخلها هو النظام الضريبي وليس الأجور، فمن يطالب بالتقشّف وتخفيض الأجور هو نفسه الذي بقي معفيّاً من أي عبء ضريبي حقيقي على أرباحه المحقّقة، وهو الذي حقّق كلّ الأرباح من تمويل عجز الموازنة العامّة وزيادة الدين العامّ ورفع الأسعار، وهو الذي يعرض الآن أن يحلّ محل الدولة في توفير الخدمات المُدرّة للأرباح... لذلك، فإن شعار «شدّ الأحزمة» على الجميع سيبدو مغرياً دائماً وجاذباً، ولكنّه شعار مخادع، ومشكلته أنه يفترض أننا جميعاً نلبس السراويل نفسها ونتمتع بالخصر نفسه، في حين أن ميزان القوى هو الذي يقرّر كيف وكمّ ومن سيشدّ حزامه، ولا ضرورة لتقديم البرهان على أن هذا الميزان مختلٌ كلّياً لمصلحة الرابحين دائماً على حساب الخاسرين دائماً.