«أنت وأنا كأسنان العجلة. تعال لنقوم بهذا العمل ونعود للابتهال للمحاسبة المقدّسة»جول فيرن - باريس في القرن العشرين

في 31 تشرين الأول/ أكتوبر قام الآلاف من عمّال وموظّفي غوغل بالتوقّف عن العمل والتظاهر في جميع مواقع وجود الشركة حول العالم من نيويورك إلى سنغافورة. السبب كان الاحتجاج على سياسة الشركة بإعطاء بعض المدراء تعويضات فصل إثر طردهم أو التخلّي عن خدماتهم إثر اتهامات التحرّش الجنسي التي طالت مؤخراً، من بين من طالتهم، مطوّر برنامج أندرويد آندي روبن الذي عمل موظّفاً في الشركة حتى عام 2014، بعد أن استحوذت غوغل على أندرويد في عام 2005 بخمسين مليون دولار فقط! للمرّة الأولى، وبشكل ضخم، يقوم عمّال غوغل بتحرّك كهذا، ولم تقتصر الشعارات المرفوعة على موضوع التحرّش بل لامست أو ربطت بين هذا الأمر والدفاع عن العمّال بشكل عام، فكان أحد الشعارات المرفوعة «حاربوا من أجل النساء، حاربوا من أجل العمّال»، فالتعويضات التي ذهبت إلى البعض كانت هائلة، ولا بدّ من أن يقارن العمّال بينها وبين مداخيلهم، إذ حصل روبن على 90 مليون دولار «كرزمة خروج»!
لكن هذا لم يكن التحرّك الأوّل لموظّفي غوغل ضد سياسات الشركة. ففي الصيف الماضي وقّع 4 آلاف موظّف على عريضة، واستقال البعض منهم، احتجاجاً على عقد مع البنتاغون الأميركي في مجال استعمال الذكاء الاصطناعي لتحليل الصور والفيديوهات التي تسجّلها الدرونات العسكرية التي تستعمل لأغراض الهجوم العسكري والاغتيالات. وقد لبّت إدارة غوغل المطالب بإعلانها عدم تجديد العقد عندما ينتهي في 2019.
إن هذه التحرّكات في فترة قصيرة زمنياً تعني أن النظر إلى غوغل ومثيلاتها على أنها مؤسّسات خارج حقل الصراعات أو أنها تمثّل تجسيداً للتكنولوجيا المحايدة، لهو أمر خاطئ. أمور عدّة يمكن استخلاصها من هذا الأمر، ومن ما سبق من التحليل حول العلاقة بين غوغل والرأسمالية والاشتراكية.
سيلفانو ميللو ــ البرازيل

أوّلاً، التناقض بين الرأسمال والعمل هو حاضر في غوغل ومثيلاتها. فعلى الرغم من الانطباع العام الذي لدينا حول أن العمل في غوغل هو حرّ، وأن المؤسّسة مسطّحة وتعطي عمّالها البيئة الصالحة للابتكار، كما يوحي حرمها في كاليفورنيا بطريقته المعمارية، إلا أنه من الواضح أن غوغل، كغيرها من المؤسّسات، حقل عملها الأساسي هو كيفية استخراج ساعات العمل من قوّة العمل، أي كيف تحوّل عمل الأفراد إلى ربح للمؤسّسة. وهذا الأمر يأتي في مسار من الزمن بدا فيه هذا القطاع التكنولوجي وكأنه فعلاً ممثلٌّ للتمرّد والحرية الفردية والابتكار على طريقة ستيف جوبز وآبل، إلا أن القطاع كلّه انتقل (مع آبل وستيف جوبز نفسه) من حالة التمرّد إلى كونه مكوّناً من مؤسّسات رأسمالية كغيرها وإن اختلفت بعض الشيء في الشكل.
ثانياً، في أحد فصول النقاشات بين بيتر ديفيس وتشارلز شوارتز في كتاب «حلم ديكارت»، هناك بدايات للتحليل الماركسي لظاهرة الحوسبة على مستوى خلقها لطبقة جديدة من المبرمجين شبيهة بمرحلة ظهور البروليتاريا في عصر الثورة الصناعية. ولكن المفارقة أن هذه التكنولوجيا الجديدة كانت تخلق نوعاً من العامل أو المبتكر الذي يريد أن ينزع مفهوم الملكية الخاصة عن ما يبتكره. في مقابلة مع ريتشارد ستالمان المطوّر الرئيسي لبرنامج GNU الحرّ والمجاني وأحد روّاد «حركة البرامج الحرّة»، يطرح أن المعضلة الأساسية في عدم حرية البرامج هي أن المؤسّسات الجديدة التي ظهرت بعد الفترة الأولى لعمل المبرمجين، أي مؤسّسات مثل غوغل وفايسبوك وغيرها، أدخلت البرامج غير الحرّة إلى أنظمتها، ما حوّل «المستعمل» إلى جزء متلقّي وليس فاعلاً في هذه الأنظمة. ويدعو ستالمان إلى أن تكون البرامج حرّة، وإن لم تكن مجانية، ويرى فيها انعكاسات لبنى اقتصادية. يقول ستالمان: «إن البرامج الحرّة تجمع بين الأفكار الرأسمالية والاشتراكية والفوضوية. الجزء الرأسمالي هو: أن البرنامج الحرّ شيء تستطيع الشركات أن تطوّره وتبيعه. الجزء الاشتراكي هو: أننا نطوّر هذه المعرفة التي تصبح متوفّرة للجميع وتحسّن من حياة الجميع. والجزء الفوضوي: أنك تستطيع أن تفعل ما يحلو لك بها». لكن الرأسمال اليوم يحدّ من الأجزاء الاشتراكية والفوضوية للبرامج كما أنه يحوّل الجزء الرأسمالي إلى جزء احتكاري. فضلاً عن أن هذا الرأسمال يسيطر على سياسات الدولة ويخضعها له. يقول ستالمان: «أنا لا أريد أن أساوي بين الرأسمالية والبلوتقراطية لأن هناك أشكال أخرى من الرأسمالية رأيتها في حياتي. ببساطة الشركات يجب أن لا تقرّر ما هي قوانينا».
ثالثاً، هناك ظاهرة «تجميع المعلومات» عن الأفراد خلال استعمالهم الوسائط الحاسوبية والشبكية والهواتف الذكية. هذه الظاهرة أصبحت اليوم إحدى معضلات هذه الملكية الخاصة لهذه الوسائل. في معرض إجابته على سؤال حول الاعتقاد السائد في بعض الأوساط في الولايات المتّحدة من أن الحدّ من مقدرة الشركات على جمع المعلومات سيتيح للصين، التي تضمّ 4 مرّات عدد السكّان في أميركا، أن تربح «سباق الفضاء» الجديد في الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي. يقول ستالمان: «إذا كانت الصين والولايات المتّحدة هما في سباق نحو الاستبداد الأورويلي فإنني أتمنى أن تخسر الولايات المتّحدة. بالتأكيد على الولايات المتّحدة أن تنسحب من هذا السباق». هنا نرى أن هذه التكنولوجيا عندما تخضع لمنطق السباق على التفوّق بين الدول تصبح أيضاً أداة ضدّ الديموقراطية والحرّية، في جزء منها بذريعة التطوّر التكنولوجي نفسه، ولكن في النهاية مُنتجة لرأسمالية سوبر أورويلية.
رابعاً، إن ظهور التكنولوجيات الحديثة ترينا أن هذا العامل الجديد، الذي تكلّم عنه شوارتز وستالمان، يدفع ببعض قوى الإنتاج التي تتمثّل بالبرامج والحوسبة إلى الأمام؛ وفي الوقت نفسه كان البعض يتأمّل أنه يستطيع أن يفعل ذلك من دون سيطرة الرأسمال عليه أكثر من ذي قبل. ولكن من الواضح أن حسابات البيدر لم تتوافق مع حسابات الحقل، إذ أن هذا العمل الحرّ يتناقض مع الرأسمالية، وبالتالي فهي احتوته وحوّلته إلى عمل ينتج الربح وحتى الأرباح الاحتكارية. كما نرى اليوم التوتر بين التوجّه التكنولوجي نحو جعل الأشياء مجانية وبين مصلحة الرأسمال الذي يرد بزيادة الاحتكار. لكن هذه ليست نهاية اللعبة. إذ أن هذا التناقض هو الذي سيحدّد مصير الرأسمالية في نهاية المطاف وقد استشرفه ماركس في «الجزيء حول الآلات» في «الجروندريسيه» الذي كتبه في شتاء 1857-1858، والذي بقي غير معروف للعالم حتى القرن العشرين (نشر بشكل محدود بالألمانية في الاتحاد السوفياتي في 1939 و1941؛ وفي ألمانيا في 1953، وبالإنكليزية في 1973). في «الجزيء» يستشرف ماركس تأثير العلوم والتكنولوجيا على الرأسمالية وحتى على قانون القيمة عنده. فالتطوّر التكنولوجي والعلمي وتطبيقه في الآلة والأتمتة يجعل من خلق الثروة يعتمد أقل وأقل على وقت العمل وأكثر وأكثر على درجة التطوّر العلمي والتكنولوجي وتطبيقهما في الإنتاج. وهنا يصل الرأسمال إلى التناقض بين محاولته الدائمة للاستحواذ على الوقت الحرّ لتحويله إلى مصدر لفائض القيمة وبين انخفاض وقت العمل الذي يحتاج له الإنتاج. يقول ماركس: «كلّما تطوّر هذا التناقض، كلّما بدا واضحاً أن تطوّر القوى المنتجة ليس محكوماً بالاستحواذ على العمل... عندها على العمّال أن يستحوذوا هم لنفسهم على عملهم الفائض... وبالتالي تصبح الثروة الحقيقية هي القوّة الإنتاجية لكل الأفراد. وعندها قياس القيمة لا يعود بأي شكل من الأشكال وقت العمل بل الوقت المتاح». هنا يرى ماركس كيفية الانتقال من الرأسمالية التي تحدّ من العمل الحرّ إلى الشيوعية التي تبني الثروة على هذا العمل الحرّ.
إذا، تدخل الرأسمالية الآن في مرحلة من تاريخها حيث تناقض «الجزيء» بدأ يتفاعل. فالصراع بين العمل الحرّ والخلّاق من أجل رفاه الجميع وحيث «التطوّر الحرّ لكلّ فرد هو شرط للتطوّر الحرّ للجميع»، وبين علاقات الإنتاج الرأسمالية، قد ابتدأ. فالرأسمالية بدأت تخلق نقيضها ونهاية علاقاتها في العمل المأجور وفي وجود طبقة تسيطر على الفائض في المجتمع، الناتج من العمل. فالآن بدأ فعلياً يصبح ناتجاً عن المقدرة العلمية للمجتمع ككلّ. ونهاية هذه العلاقات يعني أيضاً نهايةً لمراكمة الثروات المركّزة في أيدي القلّة التي تضع حاجزاً بين الإنتاجية والدخل فيذهب الدخل ليس إلى حيث مصدر الإنتاجية (والآن يصبح المجتمع ككل) بل إلى مالكي وسائل الإنتاج والوسائط المالية ومالكي الأصول المسيطرة على الريع. كما يعني نهاية استيلاد الرأسمالية للكراهية وللحروب وللتنافس القومي البغيض إلى حدود الفاشية. لكن إنهاء كل هذا سيكون رهان الجيل الجديد في بناء مجتمع جديد مرتكز على الإمكانات التحرّرية للعلوم والتكنولوجيا؛ وذلك الرهان لا يمكن ربحه إلا برفضهم نظاماً يحوّلهم كل يوم إلى «أسنان عجلة» ويدفعهم إلى «الابتهال للمحاسبة المقدّسة».