قال (رفيق الحريري) لي: «الحقيقة إنني لا أفهم الفائدة من مثل هذه الدراسة، ماذا تخشى؟ أتريد أن تعرف سلفاً مدّة العملية لحساب ريعها؟ أنا يمكنني أن أطمئنك مباشرة حول هذه المسألة. ممّا قلته لي أحفظ أن المساحة الإجمالية للأراضي الصالحة للبناء في وسط بيروت هي في حدود ستمئة ألف متر مربّع. وعلى افتراض أن هناك ثلاثمئة قطعة أرض كلّ واحدة منها من ألفي متر مربع. فأنا ألتزم شخصياً بأن أعثر لك، في أقل من أسبوع، على ثلاثمئة مشترٍ من الخليج سيكونون في غاية السعادة ليوظّف كلّ واحد منهم ستة إلى سبعة ملايين دولار لامتلاك قطعة أرض في وسط بيروت».هنري إدة - المال إن حكم

في السنوات الـ24 بعد الحرب (1993-2017)، أنفقت الحكومة اللبنانية نحو 216 مليار دولار، إلّا أنها لم تخصّص لمشاريع الإعمار إلا نسبة تقلّ عن 7% من مجمل هذا الإنفاق الضخم، في حين استنزفت خدمة الدين العامّ (الفوائد) أكثر من ثلث الإنفاق، واستحوذت التحويلات والدعم (ما يُسمّى الإنفاق السياسي أو الزبائني) على نحو الربع. في المقابل، بلغت الإيرادات التي جبتها الدولة في هذه الفترة من كلّ المقيمين نحو 144 مليار دولار، وهي كانت كافية لتغطية كلّ الإنفاق العامّ، إذا استثنينا مدفوعات الفوائد التي كانت باب الإنفاق الأكبر والأسرع نموّاً.
إذا أردنا أن نبسّط هذه الأرقام أكثر، يمكننا القول إن الحكومة بعد الحرب كانت تنفق 9 مليارات دولار كمتوسّط سنوي، وكانت تجبي 6 مليارات دولار من المقيمين، وتستدين 3 مليارات دولار لتمويل العجز. وفي حين كانت لا تنفق على تجهيز البنية التحتية وصيانتها وخلق الأصول العامّة إلّا نصف مليار دولار سنوياً، وزّعت 3.2 مليار دولار للدائنين، أي أكثر من نصف الإيرادات وثلث النفقات، ويكفي للتعبير عن النتيجة أن لبنان خرج من الحرب المُدمّرة في عام 1990 ولم تكن حكومته مديونة سوى بمبلغ 1.7 مليار دولار، أمّا اليوم فهي مديونة بأكثر من 83 مليار دولار (من دون احتساب الدين المتراكم على مصرف لبنان وديون الأسر والقطاع الخاصّ). فعلى امتداد هذه الفترة كان يجري تقليص الإنفاق الاستثماري والاجتماعي وزيادة مدفوعات الفوائد، وهذه الوصفة نفسها مطروحة اليوم.
ماذا تعني هذه الأرقام؟ تعني أوّلاً، أن الفوائد المدفوعة (77 مليار دولار) كانت المصدر الرئيس لنشوء الدين وتناميه، لا مشاريع البنية التحتية ولا سلسلة الرتب الرواتب ولا معاشات التقاعد ولا دعم أسعار الكهرباء... ولا حتّى الإنفاق التوزيعي الزبائني أو الهدر والفساد.
طبعاً، التركيز على مدفوعات الفوائد لا يجعل من الإنفاق الآخر غير مسؤول عن تنامي المديونية. ولكن الأرقام تدلّنا إلى أن كلّ الإنفاق الآخر، بلغت قيمته في هذه الفترة نحو 139 مليار دولار، أي أقلّ بـ5 مليارات دولار من الإيرادات التي جبتها الدولة. وهذا يعني، ثانياً، أن الضرائب وشبه الضرائب، التي وقع ثقلها على متوسّطي الدخل والفقراء، كانت كافية لنحصل (نظرياً) على «الوضع البائس» الحالي نفسه، على علّاته وفساده، ولكن من دون هذه المديونية العامّة، التي تسجّل مستويات قياسية تاريخية. ويعني، ثالثاً، أن الدين العامّ (كما الإنفاق الآخر) لم يكن حادثاً عرضياً، أو نتج عن حسابات خاطئة، بل كان الوسيلة التي تمّ اختيارها للفوز بواحدة من أطول الفقاعات في تاريخ لبنان الحديث، والتي أسفرت عن تضخيم رأس مال المصارف 150 مرّة، وتكديس أكثر من 177 مليار دولار في الودائع، أكثر من نصفها يعود إلى أقل من 1% من المودعين، وأسفرت أيضاً عن تحقيق مبيعات عقارية تفوق قيمتها 170 مليار دولار في الفترة بين 1991 و2017. وزادت أسعار الاراضي لتبلغ قيمة الثروة العقارية في لبنان نحو 1100 مليار دولار تقريباً، أي ما يوازي خمس مرّات قيمة الثروة المالية التي تتشكّل من الودائع لدى المصارف ورأس المال الموظّف في المصارف والشركات، وفق حسابات نشرها المصرفي منصور بطيش.
كيف حصل ذلك؟ ولمصلحة من؟ بعد حرب مُدمّرة، تلجأ الدولة عادة إلى الاستدانة من أجل تمويل الاستثمارات لإعادة الإعمار وتوسيع الكتلة النقدية ودعم الطلب وزيادة الإنتاج وخلق فرص العمل. وقد يكون الدين في هذه الحالة «حميداً»، أقلّة في نظريّات الاقتصاد الشائع. وهو قد يكون خياراً مفروضاً في السنوات الأولى التي تلي الحرب مباشرة عندما لا يكون خيار زيادة الضرائب مقبولاً أو ذا جدوى. ولكن الدين العام اللبناني لم تكن هذه وظيفته منذ البداية. لقد كان، ببساطة، المجال السهل والأكثر ربحية لتوظيف فائض رأس المال، الذي تراكم بوتيرة سريعة لدى أثرياء الحرب وأثرياء النفط في تلك المرحلة.
لم يكن هذا المشروع مُعلناً، فلا وجود لوثيقة «رسمية» تدعى «مشروع الدولة لإعادة الإعمار». كلّ ما طُرح في العلن منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي كان عبارة عن لوائح مشاريع كثيرة وأحلام، على غرار «خطّة 2000» التي أعدّها رفيق الحريري عام 1993 بعد تسلّمه رئاسة الحكومة، والتزم فيها بموازنة متوازنة في عام 1995 وبتسديد كلّ ديون الدولة في عام 2002. ولكن ما حصل في ظلّ هذه «الخطّة» كان يسير في الاتجاه المعاكس، ففي عام 1994 ألغت الحكومة تصاعدية الضريبة على الدخل وخفّضت معدّلاتها جذرياً إلى 10% مقطوعة على أرباح شركات الأموال، كما خفّضت لاحقاً الرسوم الجمركية على الاستيراد، وأعفت أرباح الفوائد وتجارة العقارات من أي عبء ضريبي مباشر... لقد أسفر هذا الاتجاه عن حرمان الخزينة العامّة من إيرادات مهمّة وجرى التعويض عنها بالاستدانة، فرُفعت أسعار الفائدة لتكديس الودائع بدلاً من الإنتاج وعوائد العمل، وبُني النظام النقدي بما يخدم امتصاص هذه الودائع وتوجيهها نحو تمويل الاستهلاك ومبيعات العقارات.
عدم الإعلان عن مشروع إعادة الإعمار لا يعني أنه لم يكن موجوداً، فمع إطلاق شركة «سوليدير» في عام 1994 كانت ملامح المشروع قد ظهرت على صورة صفحة بيضاء كبيرة، ستغزوها ناطحات سحاب ومقرّات شركات ومراكز تسوّق ومتعة ولهو وشقق فخمة وقصور مؤتمرات ومعارض ومنتجعات سياحية ومسابح مغلقة ومرافئ يخوت ومطار جديد... تمّ تقديم مشروع الإعمار بلا مواربة على صورة مشروع عقاري ضخم، يتجاوز حدود وسط بيروت، ويحرّر استخدامات الأراضي ويبيحها للمضاربات، ويعيد إنتاج المجتمع الاستهلاكي بوصفه الهدف لهذا المشروع. وتمّ تقديم المصارف بوصفها العامود الفقري، أمّا الناس فتمّ تقديمهم بوصفهم مستهلكين فقط وروّاد أعمال ومدراء تنفيذيين وسيّاحاً ومتفرّجين.
على عكس ما هو شائع اليوم، هذا المشروع الإعماري لم يفشل، وربّما يصحّ القول إنه حقّق نجاحاً باهراً طالما كان هدفه مراكمة الثروة وتركيزها وإخضاع المجتمع اللبناني للشروط التي يعيش فيها.
يتبع