ثمّة أزمات بنيوية وعميقة قائمة في أساس النموذج الاقتصادي اللبناني، تعرّيها اليوم مجموعة من العوامل تشير بوضوح إلى استنفاد قدرة هذا النموذج على الصمود. ولعلّ أبرز هذه العوامل هو عجز ميزان المدفوعات، الذي يختصر صافي المعاملات والتحويلات المالية بين لبنان والعالم الخارجي. إذ يسجّل هذا الميزان عجوزات سنوية متراكمة منذ عام 2011، ما يعني أن النموذج القائم بات عاجزاً عن تأمين التدفّقات المالية بالقدر الكافي للحصول على العملة الصعبة وتمويل الاستيراد والدين العام بالعملات الأجنبية. ينقسم ميزان المدفوعات إلى ثلاثة أبواب: (1) الحساب الجاري الذي يختصر التبادلات التجارية من السلع والخدمات والهبات والدخل، (2) الحساب الرأسمالي الذي يختصر صافي التحويلات التي تمثّل استثمارات وعمليات تملّك لوسائل الإنتاج والأصول الثابتة وغيرها من الاستثمارات الرأسمالية، (3) الحساب المالي الذي يمثّل صافي العمليات التي تشكّل التزامات مالية وودائع وتملّك سندات دين وغيرها من العمليات المالية.

تاريخياً، وقبل الأزمة الحالية، شكّل الحساب الجاري مصدر عجز بنيوي دائم بسبب الفارق الكبير بين حجم الاستيراد والتصدير، ويعود ذلك إلى طبيعة الاقتصاد اللبناني الريعي الذي لم ينجح في تطوير القطاعات الإنتاجيّة الكفيلة بتأمين التوازن في هذا الحساب. إلّا أن النموذج الاقتصادي بقي حتى عام 2011 مُحافظاً على قدرته على تأمين العملة الصعبة وتعزيز الاحتياطي بالعملات الأجنبية، وبالتالي تثبيت سعر صرف العملة المحلّية، وذلك بفضل الفائض في الباب الثالث من ميزان المدفوعات، أي الحساب المالي تحديداً. فقد ساهم الفائض في هذا الحساب كلّ تلك الفترة في تعويض عجز الحساب الجاري وتحقيق فائض في ميزان المدفوعات ككلّ، ونتج فائض الحساب المالي من تحويلات اللبنانيين المغتربين ووودائع الأجانب والتوظيفات في سندات الخزينة للاستفادة من الفوائد المُرتفعة. في الواقع، راكم هذا الأمر تضخّم الدين العامّ والودائع المصرفية (التي بدورها هي التزامات للخارج)، كذلك ساهم ارتفاع الفوائد في تكريس الاقتصاد الريعي وغير المُنتج من خلال رفع كلفة التمويل وامتصاص رؤوس الأموال في الودائع المصرفية.
الهشاشة وعوامل التفجّر، الموجودة أصلاً، ازدادت أكثر في ظلّ الأزمة بعد عام 2011. فتراجع التحويلات الخارجية حدّ من قدرة الحساب المالي على تعويض العجز المتزايد في الحساب الجاري، وظهر العجز منذ ذلك الوقت في ميزان المدفوعات على مدار السنوات السبع اللاحقة، باستثناء عام 2016 بفعل الهندسات المالية المُكلفة والمؤلمة اقتصادياً.
وإذا كان مكمن الأزمة العميق يقع في بنية الاقتصاد العاجز عن تمويل نفسه، فالتقارير الدولية تلجأ عادة إلى قياس عجز الحساب الجاري نسبة إلى الناتج المحلّي، لمعرفة حجم هذا العجز مقارنة بالاقتصاد الوطني وحجمه. لكن هذا التقدير بالتحديد اختلف دائماً بين تقارير مصرف لبنان والمؤسّسات الدولية، كون المؤسّسات الدولية استثنت عمليات تصدير معيّنة من الحساب الجاري، لأنها في الواقع لا تشكّل إلّا عمليات إعادة تصدير بقيمة مُضافة محدودة جدّاً، كما اعتمدت تقديرات مختلفة عن مصرف لبنان للناتج المحلّي.
وفق صندوق النقد الدولي، مثّل عجز الحساب الجاري اللبناني عام 2017 نحو 22.8% من الناتج المحلّي. بمعنى آخر، الفارق بين ما صدّره لبنان من سلع وخدمات ورأس مال وأجور وتحويلات وما استورده، مثّل في هذه الفترة 22.8% من مجمل السلع والخدمات والقيم المُضافة التي تمّ إنتاجها في لبنان خلال هذه السنة.
وبمراقبة مسار هذا المؤشّر تحديداً، يبدو أن نسبة هذا العجز من الناتج المحلّي تسير في اتجاه تصاعدي خلال السنوات الثلاث الأخيرة، إذ ارتفعت من 18.3% عام 2015 إلى 22.8% عام 2017. ويبدو أن هذا المؤشّر سيسير في اتجاه تصاعدي في السنة الحالية أيضاً مع ارتفاع العجز في الميزان التجاري (الفرق بين قيمة البضائع المستوردة والمصدّرة) بنحو 383.66 مليون دولار مع نهاية الأشهر السبعة الأولى من هذا العام، ليبلغ نحو 10.14 مليار دولار مقارنة بـ9.76 مليار دولار في الفترة نفسها من العام الماضي، وفق إحصاءات المجلس الأعلى للجمارك. بالتالي يكون قد ارتفع هذا العجز بنسبة 4.2% مقارنة بتوقّعات هزيلة لنسبة النمو في الناتج المحلّي، حيث خفّض صندوق النقد توقّعاته لهذا النمو إلى 1%.
في الخلاصة، قد يكون تراجع التحويلات قد كشف الخلل البنيوي خلال السنوات الماضية من خلال عجز الحساب المالي عن تعويض عجز الحساب الجاري. لكن الحقيقة أن الأزمة لا تكمن هنا، بل بوجود عجز تاريخي في الحساب الجاري ناتج عن عدم قدرة الاقتصاد اللبناني على النمو بشكل مستدام من خلال الإنتاج والعمل، وهو ما يرتبط بسياسات أعمق من مسألة تراجع التحويلات ومعالجتها من خلال رفع الفوائد والقيام بهندسات مالية مكلفة وغير مستدامة.