«الشيوعية بالنسبة لنا هي ليست حالة يجب إنشاؤها أو مثالاً على الواقع أن يتأقلم معه»كارل ماركس وفريديريك إنجلز - الأيديولوجية الألمانية

الرأسمالية في أزمة. هذا أمر أصبح واضحاً للجميع. فالتنظيم الاقتصادي العالمي، الذي أنشئ أوّلاً بعد الحرب العالمية الثانية، وعُدِّل إبان الحقبة النيوليبرالية، يتهاوى تحت ضربات ترامب واليمين الشعبوي. وللمفارقة، إن صعود هذه القومية السياسية والاقتصادية اليوم لم يكن كردّ على قوّة اليسار، كما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي، بل كان نتاج الثورة النيوليبرالية نفسها التي حاولت إنقاذ الرأسمالية من جميع أنواع الاشتراكية، من الاشتراكية المُحقّقة فعلياً في أوروبا الشرقية، إلى الديموقراطية الاجتماعية في غربها، وإلى حدّ ما عبر الأطلنطي. يقال إن الثورة تأكل أبناءها وها هي فعلتها مرّة أخرى!
في الوقت نفسه، نشهد في الآونة الأخيرة ازدياد التحوّل نحو الديموقراطية الاشتراكية داخل الحزب الديموقراطي في الولايات المتّحدة الأميركية، وبشكل أكثر من قبل في حزب العمّال البريطاني. فاليوم المواجهة لم تعد بين النيوليبرالية المُنتصرة وبين «معادي الرأسمالية» كما كان الأمر لسنوات، بل هي بين هذه القومية الصاعدة في الدول الرأسمالية المُتقدّمة وبين الاشتراكية. فالرأسمالية الحرّة المعولمة كما وصفها البيان الشيوعي تخلق «حفّاري قبورها»، والرأسمال هناك يحاول، عبر إعادة التموضع ومحاربة العولمة، أن يمنع نفسه من ملاقاتهم. وهي وإن أصبحت أكثر ديناميكية (كما وصفها البيان الشيوعي تماماً أيضاً) فهي خلقت ظروفاً أكثر مؤاتية لنهايتها، فزاد منسوب أمرين، يعتبر الكثيرون وحتّى غير الماركسيين، أنهما أهمّ ما وصف ماركس الرأسمالية بهما: الأوّل، ازدياد التقلّبات الاقتصادية وعدم الاستقرار، وهذا شهدناه منذ الأزمة الآسيوية في 1997 إلى الأزمة الكبرى في 2008. والثاني، ازدياد عدم المساواة بين دخلي رأس المال والعمل، وهذا حدث بشكل دراماتيكي في الثلاثين سنة الماضية.

النيو-ديموقراطية اجتماعية؟
ولكن أي اشتراكية تتمظهر اليوم؟ كما تاريخياً كانت المقاربات الاشتراكية مُتعدّدة وكذلك هي اليوم. في أميركا ينبري الكثيرون للكتابة والنقاش حول الاشتراكية. بول كروغمان كتب في نيويورك تايمز في 26 آب/ أغسطس الماضي مقالاً بعنوان «الرأسمالية والاشتراكية واللاحرية»، تناول فيه بشكل أساسي موضوع الحرّية الفردية التي يحاول المدافعون عن الأسواق الحرّة استعمالها كذريعة للدفاع عن الرأسمالية وعن تراجع دور الدولة فيها. وهو يفنّد هذا الأمر ويعتبر أن لا علاقة سلبية بين حجم الدولة في أميركا أو بين مؤشّر الحرّية الاقتصادية وبين الحرّية نفسها. مثلاً الذين يعيشون في نيويورك ليسوا أقلّ حرّية من الذين يعيشون في فلوريدا، والأولى لديها تنظيم اقتصادي أكبر من قِبل سلطات الولاية، كما أن النقابات فيها أقوى من فلوريدا. ويعتبر كروغمان أن هذا الربط ما هو إلّا ادعاء غير مستند للوقائع للذين يريدون أن يضفوا طابعاً حرّياتياً على دفاعهم عن سلطة الشركات الرأسمالية وعن حرمان العمّال من التنظيم النقابي.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

بشكل عام يدور هذا النقاش في الولايات المتّحدة حول حقبة «النيوليبرالية» ودورها في تراجع الدولة عن التنظيم الاقتصادي (مثلاً في تحرير الأسواق المالية الذي أدّى إلى ارتفاع حصّة الريع من الناتج)، وفي خفض الضرائب على الأغنياء والشركات الكبرى الذي كان سبباً في ارتفاع عدم المساواة في الدخل والثروة . إذاً الصراع حول «الاشتراكية» في أميركا يبدو وكأنه حوّل «الحكومة الكبيرة vs الأسواق الحرّة»، وهو كان عنوان مؤتمر عُقِد في 2 تشرين الأول/ أكتوبر بمشاركة كروغمان. أي إن الاشتراكية هناك تُطرح كاشتراكية ديموقراطية عنوانها الأساسي دور الدولة في الاقتصاد، إن في التنظيم أو في إعادة التوزيع. في المحصّلة يبدو أنها محاولة للعودة إلى المرحلة الذهبية للرأسمالية أو الفوردية - الكينزية التي امتدّت منذ 1945 إلى السبعينيات. أي إن النيو-ديموقراطية اجتماعية هي لإنقاذ الرأسمالية من نفسها. كما أن الرهان يكمن في أن الديموقراطية الاجتماعية هي التي ستعيد إلى الرأسمالية الأميركية خاصّيتها القديمة، ألا وهي الترقّي الاجتماعي. فتقول إحدى المعلّقات على تقرير حول الترقّي الاجتماعي يظهر ارتفاعه في الدول الاسكندنافية «إذا أردت أن تعيش الحلم الأميركي، اذهب إلى الدنمارك».

اشتراكية ما بعد الرأسمالية
لكن هل هناك اشتراكية بعد الرأسمالية؟ لنعُد عشرات الأعوام إلى الوراء. لقد كانت الثورة البلشفية في 1917 إطلاقاً سياسياً للاشتراكية في القرن العشرين وما تلى ذلك من تحوّل عالمي، من ضمنها الثورة الصينية التي لا تزال نتائجها تطبع إلى حدّ كبير القرن الحالي. ولفهم إمكانية الاشتراكية اليوم لا بدّ سريعاً من فهم أهم أسباب إخفاقها بالأمس. إن انتهاء التجربة الاشتراكية في روسيا تعود إلى أمرين أساسيين: الأوّل، انقسام العالم إلى منظومتين، اشتراكية من جهة ورأسمالية من جهة أخرى. كان لهذا الانقسام تأثير على ديناميكية الاشتراكية داخلياً حتّى في تحوّلها تدرّجاً في الثلاثينيات إلى نظام ديكتاتوري، الذي تحوّل بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي في 1956 إلى حكم الحزب الواحد غير الديكتاتوري، وإن ظلّ يحمل ولو جزئياً بعض خصائص الستالينية. الثاني، حصول الثورة في دولة متخلّفة اقتصادياً حيث الزراعة مُسيطرة ولم يتمّ فيها التطوّر الرأسمالي بشكل يسمح بالانتقال إلى الاشتراكية.
تحت ضغط ومعوّقات هذين العاملين أخذت الاشتراكية مساراً انتهى في عام 1991. في هذا الإطار، لم تذهب التجربة هباءً؛ فالاشتراكية السوفياتية أعطت العالم تجربة إنسانية كبرى من حيث إتاحتها للمرّة الأولى إمكانية التطوّر الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي والثقافي من دون رأس المال. وأيضاً، الاشتراكية والشيوعيون كانوا أساسيين في تحطيم البنية القديمة والمتخلّفة في بلدان مثل الصين وبولونيا عبر تدمير سلطة الأرستقراطية الزراعية وملّاكي الأراضي؛ وهنا يشير البعض اليوم، كمفارقة ربّما، إلى أهمّية المرحلة «الشيوعية» في انتقالهما إلى «الرأسمالية». إذاً، الاشتراكية السوفياتية حملت في طيّاتها أمرين، وإن بأشكال غير خطّية nonlinear، لا يزالان أساسيين في أي اشتراكية لما بعد الرأسمالية. الأوّل، أن الاشتراكية يجب أن تكون نظاماً متطوّراً على جميع الصعد على الرأسمالية، وإلا لا مكان تاريخياً لها (وهذا يفسّر الجهود السوفياتية الجبّارة في التقدّم الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي)؛ والثاني، أن الاشتراكية هي ليست «شكلاً حميداً للرأسمالية» بل هي تأتي لا لتُبقي على القديم بل لتنقضه نقضاً قاسياً.
اليوم، واضح أيضاً أمران. الأوّل، أهمية عالمية الثورة. فـ«الاشتراكية في بلد واحد»، على الرغم من صوابية قرارها في ذلك الوقت، لا يمكن أن تكون كذلك اليوم، فمنطق رأس المال عالمي والاشتراكية كذلك. وهنا تأتي أهمية دعوة برني ساندرز إلى جبهة تقدّمية عالمية لمواجهة اليمين الذي هو نفسه أصبح عالمياً. والأمر الثاني، أهمية العودة إلى الماركسية التي تحتمّ عدم الإرادوية وإعطاء الأهمّية لتطوّر القوى المُنتجة، التي بدرجة تطوّرها تُحدّد إمكانية تحقيق الانتقال إلى الاشتراكية. في هذا الإطار، هناك ما يمكن أن نسمّيه «الأساطير» حول الاشتراكية يجب التخلّص منها.
في نقد برنامج غوتة الذي كتبه ماركس ردّاً على برنامج حزب العمّال الديموقراطي الاجتماعي الألماني الذي عُقِد في أيار 1875، الكثير من الدروس، والأساسي فيها أن الشيوعية ليست أمراً حاضراً وجاهزاً لإسقاطه على المجتمع، وهنا يؤكّد ماركس على ما قيل في الأيديولوجية الألمانية (الذي للمفارقة تركه ماركس وأنجلز «للنقد القاضم للفئران» بعد أن تعذّر نشره!) قبل ذلك بثلاثين عاماً حين يقول «نحن هنا نتعامل مع مجتمع شيوعي لم يبنَ على أساساته هو، بل على العكس، كما ينبثق من المجتمع الرأسمالي. وهو في كلّ وجوهه الاقتصادية والأخلاقية والفكرية لا يزال مطبوعاً بسمات الولادة من المجتمع القديم الذي خرج من رحمه». وأساسي أيضاً في «النقد» أن الاشتراكية لا تعني إعادة التوزيع أو إعادة الحقّ إلى أصحابه بمعزل عن درجة التطوّر المجتمعي. يقول هنا ماركس «إن الحقّ لا يمكن أن يرتفع فوق البنية الاقتصادية للمجتمع».
اليوم في ظلّ صعود القومية اليمينية الاقتصادية وامتداداتها العالمية، وفي ظلّ خطورة تصاعدها نحو إمبريالية عسكريتارية، لا بدّ من التأكيد على المشروع الاشتراكي بوصفه البديل من الرأسمالية، التي وإن كانت تتكيّف مع التحدّيات بشكل مرِن وسريع (ماركس لم يقل غير ذلك)، إلا أنها اليوم وبعد أن أكلت الثورة النيوليبرالية أبناءها، أصبحت في حالة الدفاع عن النفس أمام عالم أصبح شبيهاً بالعالم الذي وصفه «البيان الشيوعي».
آخر مرّة كانت الرأسمالية في الزاوية أنتجت الفاشية والحرب العالمية الثانية. اليوم، وعلى الرغم من الفوارق في مقاربات الاشتراكية، يجب قيام جبهة تقدّمية عالمية توقف احتمال الانزلاق إلى الحروب الداخلية والخارجية. فقط جبهة عالمية كهذه يمكن أن تتقدّم بالعالم إلى الأمام وتُخرِجه من التهديد بصراع القوميات والإثنيات والأيديولوجيات الدينية، التي ستؤدّي إلى انتقاله فعلاً إلى «البربرية».