«فلتبادر الحكومة إذن إلى منح حمّالي المرافئ والمحطّات وسائر العتّالين لباس عمل (وشيئاً من وسائل حفظ الصحّة) ولتترك التجّار في سائر فروع التجارة لحالهم، يمارسون مهنتهم بإتقان ويؤمّنون للحكومة معاشها!»ميشال شيحا - 1953

يوصف الاقتصاد السياسي في لبنان، أنه «نيوليبرالي» بالفطرة. فمنذ إعلان الاستقلال في عام 1943 حتى اليوم، حافظت الدولة اللبنانية على الركيزتين الأساسيتين، اللتين قام عليهما لاحقاً جدول الأعمال «النيوليبرالي» منذ السبعينيات من القرن الماضي:
1 - إلغاء القيود على حركة رأس المال وتدفّقات السلع والأفراد عبر الحدود، أو ما يُعرف بتحرير الحساب الرأسمالي وحرّية التجارة.
2 - تقليص حجم الدولة ونشاطها الاقتصادي، أو ما يُعرف بالتقشّف.
إلّا أن هذا الوصف، أي «لبنان النيوليبرالي» منذ الأزل، على قدر ما فيه من إغراءات، يبقى وصفاً مجازياً، ولا يقدّم إجابة مُحدّدة على السؤال المطروح في سياق البحث عن مصادر أزمة النموذج الاقتصادي اللبناني القائم بالفعل، فالعالم كلّه تقريباً خضع بشكل أو بآخر لتأثيرات «النظرية النيوليبرالية» المُهيمنة، وهو اليوم يعاني بشدّة من هذا الخضوع ونتائجه الماثلة على كل المستويات تقريباً، ويبحث عن سبل «إنقاذ الرأسمالية» مجدّداً. ولكن هل هذا ما نقصده في لبنان اليوم؟ هل نواجه هذا النوع من الأزمات التي تشغل بقية العالم، لا سيّما في الاقتصادات المتقدّمة؟
لا شكّ في أن التاريخ اللبناني الحديث، أقلّه على مدى ثلاثة أرباع قرن، ينطوي على علامات كثيرة وكثيفة على تشكّل نوع من «الليبرالية الاقتصادية المتطرّفة»، ولكن تطوّر النظام السياسي للدولة اللبنانية لم يظهر في خلال المراحل السابقة أنه وليد «فكر اقتصادي» سبّاق وفريد، أو نتيجة مشروع سياسي خاصّ للطبقة الرأسمالية المحلّية مُستقّلاً عن شروط التبعية للعوامل الخارجية. لقد بذل ميشال شيحا وآخرون محاولات جدّية لإضفاء هذه الصفات على ما اعتبروه «حالة لبنان الفريدة في العالم» أو «المعجزة»، إلا أن «موقع لبنان الجيوسياسي، وتاريخه الخاصّ، وتوازناته الاجتماعية والطائفية، والخصائص الثقافية لبرجوازيته»، التي عُدّت عناصر قوّة وتميّز في الحالة اللبنانية، هي نفسها التي حوّلت هذا البلد، منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، إلى «إحدى النقاط الرئيسة لاختراق البلدان الرأسمالية الصناعية لاقتصاد المشرق العربي. ومن خلال هذا الاختراق، تكوّنت البنى الأساسية للاقتصاد اللبناني» (سليم نصر - سوسيولوجيا الحرب في لبنان).
هذا الدور (الجسر) تعزّز مع احتلال فلسطين وانتقال حركة الترانزيت من مرفأ حيفا إلى مرفأ بيروت، واتخذ حجماً كبيراً بعد الخمسينيات، لا سيّما مع ظهور النفط العربي وتوسّع أسواقه، ورأس ماله الفائض، وهجرة جزء من البرجوازية التجارية والمالية والصناعية، المصرية والعراقية والسورية، إضافة إلى الفلسطينية سابقاً والأرمنية في زمن أبعد، واندماج هذه البرجوازية بالبرجوازية اللبنانية. لقد كان لبنان «بلد لجوء» في تلك الحقبة، وقد يندهش البعض من أن معظم المشاهير في عالم الأعمال والعلامات التجارية المشهورة هم من أصول ليست «لبنانية»، وفق التعريف الساذج للعنصريين اللبنانيين، الذين يغذّون الآن العدائية ضدّ اللاجئين من فلسطين وسوريا والعراق والسودان وسائر الوافدين الفقراء من بلدان أفريقية وآسيوية.
في ظلّ تنامي موجات التأميم والإصلاحات الزراعية في العديد من بلدان المنطقة العربية في تلك الفترة، حظِي قطاع الخدمات اللبناني بفرصته الذهبية لتوسيع دوره ليصبح نقطة اتصال بين هذه البلدان والسوق الرأسمالية العالمية. فاكتسب صفته كـ«وسيط» مالي وتجاري. ازدهرت نشاطات التجارة والمصارف والسياحة والتعليم والاستشفاء والنقل والمقاولات والمضاربات العقارية، وزادت حصّة الخدمات من مجمل الناتج المحلي من 62% في الخمسينيات، وهي كانت مرتفعة حينذاك بالمقارنة مع البلدان الأخرى، إلى 72% في السبعينيات، وصولاً إلى 75% اليوم. فاكتسب الاقتصاد اللبناني تاريخياً صفته كـ«اقتصاد خدمات» يزداد تخصّصه في خدمة الاقتصاد الإقليمي، الذي خضع تطوّره بدرجة عالية جدّاً للريع النفطي والعسكرة واقتصاديات الحرب.
هذا «الازدهار» لم يخدم المجتمع اللبناني بقدر ما خدم رأس المال الأجنبي وتراكم الثروة لدى القلّة، وساهم بتفاوتات تاريخية في توزيع الدخل بين الفئات الاجتماعية والمناطق. فوفق الإحصاء الوطني الذي أجري عام 1960، كانت نسبة 4% الأغنى من السكّان تستحوذ على 32% من مجمل الدخل الوطني، فيما يتقاسم 50% من السكان الأفقر 18% من مجمل الناتج. وهذه الحالة من اللامساواة تفاقمت تدرّجياً، خصوصاً بعد انتهاء الحرب، حتى أصبح لبنان «مُصنّفاً ضمن الدول التي تسجّل أعلى مستويات تفاوت الدخل وانعدام المساواة في العالم»، وفق ما توصّلت إليه دراسة ليديا أسود الأخيرة، إذ بات 10% من السكّان يستحوذون حالياً على 55% من الدخل، و1% الأكثر ثراءً يستحوذون وحدهم على ربع هذا الدخل.
تسخير كل قدرات المجتمع اللبناني وموارده وثرواته المتاحة لتأدية وظائف موجّهة خارجياً، قلّص حصّة الزراعة من مجمل الناتج المحلي (في عام 2016) إلى 3% (2% للزراعة والأحراج و1% للثروة الحيوانية) وقلّص حصّة الصناعة إلى 15% (أو 12% إذا استبعدنا البناء والكهرباء والمياه). وهذان القطاعان يجسّدان الاقتصاد الحقيقي (الإنتاج) وهما الأكثر استخداماً لليد العاملة، لا سيّما الماهرة.
هيمنة التجارة والمال والانغماس في وظائف الوساطة، نتج منهما أيضاً توسّع فوضوي لمدينة بيروت ومحيطها ونزوح واسع من الريف وتمركز مفرط للسكّان والنشاط الاقتصادي والخدمات العامّة والمرافق الرئيسة في وسط لبنان. وترافق كلّ ذلك مع نزيف دائم من خلال الهجرة. وتراجع حصّة الأجور من مجمل الناتج المحلي من 55% قبل الحرب إلى 35% في مرحلة الإعمار بعد الحرب وأقل من 25% حالياً.
لا نحتاج إلى أدلّة كثيرة كي نعيّن هذه البنية الاقتصادية، بما ترسيه من علاقات وترتّبه من نتائج، كمصدر رئيس من مصادر أزمة النموذج الاقتصادي اللبناني، لا سيّما على صعيد سلّم توزيع الثروة والدخل، وتكوّن طبقة «أوليغارشية» تتحكّم بالثروة والدولة. قبل تعيين الطائفية والفساد والريع وديمومة نظام الحرب كمصادر إضافية، مهمّة ورئيسة، ولكنها أقرب إلى أن تكون نتائج من كونها أسباباً.

يتبع
كيف تعمل الآلية؟ وكيف تراكمت الثروة وتركّز الدخل في ربع القرن الأخير؟