«إن المحافظين في إنكلترا كانوا دائماً يتصوّرون أنهم متحمّسون للملكية وللكنيسة ولجمال الدستور الإنكليزي القديم، إلى أن أتى يوم الخطر وانتزع منهم اعتراف بأنهم فقط كانوا متحمّسين لريع الأرض»كارل ماركس ــــ الثامن عشر من بروميير

في السياسة النقدية، تمّ إحباط الآمال من إمكان اجتراح أو تطبيق «صيغة سحرية» يُمكن استعمالها مراراً وتكراراً من دون تغيير. فحتى «استهداف التضخّم»، الذي اعتُبِرَ أخيراً بموقع تلك «الصيغة»، وأصبح إلى حدّ كبير يحكم السياسة السائدة بين المصارف المركزية في العالم منذ بدايات ما يُسمّيها البعض الحقبة النيوليبرالية، أُصيب بأضرار جسيمة بعد أزمة 2008. في لبنان، وبسبب الحاجة إلى الخروج من حالة التضخّم العالي في الثمانينيات، اتبع مصرف لبنان منذ 1993 سعر الصرف كمرساة لوقف التضخّم، فتم التثبيت بعد ذلك على هذا الأساس. لكن لاحقاً، أصبح التثبيت غاية وحيدة، وفي حدّ ذاتها، واُضفِي عليه عباءة من «التقنية»، أدّت في نهاية الأمر إلى عكس العلمية، أو نوع من «الطوطمية النقدية»، فلم يعد هناك اليوم من إمكان لتغيير الحاكم، ولم يعد هناك من إمكان لتغيير السياسة النقدية.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

في هذا الإطار، لا بدّ من وضع الأطر المؤسّساتية والاقتصادية ــــ السياسية للسياسات النقدية، التي تذهب أبعد من «التقنية» المزعومة وتأثيراتها، وذلك لفهم الموضوع بأبعاده المختلفة والطويلة الأمد. فعلى الرغم من أن الجسم السياسي اللبناني خاضع لنوع من قصر النظر في الزمن، إلا أن الاقتصاد اللبناني لا يجب أن يخضع لذلك.

الاقتراح 1
المصارف المركزية لها وقع على الاقتصاد الحقيقي. فعادة ما يكون لسياساتها تأثير على الإنتاج والعمالة وليس فقط على قيمة العملة والتضخّم.
سواء نظرنا إلى التطوّر التاريخي للمصارف المركزية، أو إلى الحجج النظرية المؤيّدة والمعارضة لوجود المصارف المركزية (نعم هناك من يعارض وجودها!)، فإن المرء يدرك أن المصرف المركزي هو أساسي لتحديد الناتج والأجور والتضخّم. وبالتالي، فإن المصرف المركزي لاعب مهمّ في أسواق المنتجات والعمل. وتؤكّد تجارب العقود الأخيرة في الدول الصناعية المتقدّمة هذا الرأي. فمثلاً، الاحتياطي الفدرالي في الولايات المتحدة حارب التضخّم بدءاً من 1979، ولم يقضِ على التضخّم فقط، بل أدّى إلى دخول الاقتصاد الأميركي في حالة ركود كانت الأشدّ منذ الكساد العظيم في عام 1929. وفي أوروبا، كان للمصرف المركزي الألماني قبل اليورو، وللمصرف المركزي الأوروبي اليوم، آثار كبيرة على خفض فرص النمو في القارة الأوروبية نتيجة سياساتهما المُحاربة للتضخّم.
في لبنان، أدّى استعمال سعر الصرف، كمرساة لمحاربة التضخّم وللاستقرار النقدي، إلى دورة اقتصادية بين 1993 و2002، تخلّلها مرحلة نمو حتى 1998 ومرحلة ركود النمو بين 1999 و2002. وكانت هذه الدورة شبيهة بمثيلاتها في البلدان التي خاضت برامج الاستقرار، والتي تستعمل سعر الصرف لذلك. وكانت مرحلة النمو مدفوعة بارتفاع الأجر الحقيقي وزيادة الاستثمار، بينما في المرحلة اللاحقة أدّى ارتفاع الفوائد الحقيقية وسعر الصرف الحقيقي الناتجين من التثبيت إلى الركود.
من دون الدخول في ما حدث لاحقاً في الاقتصاد، أي بعد 2002، من الواضح أن لسياسة التثبيت النقدي آثاراً اقتصادية حقيقية غير تلك المرتبطة بالاستقرار النقدي نفسه، ويجب أن تُؤخذ في الحسبان.

الاقتراح 2
السياسة مهمّة. تُعتبر البيئة الاقتصادية ــــ السياسية عاملاً مُحدداً مهماً لسياسة المصرف المركزي.
إن «علمية» السياسات النقدية وهم. فهي لديها وقع توزيعي، ما يجعلها جزءاً من الاقتصاد السياسي: أي هناك من يربح وهناك من يخسر إذا حصل تضخّم أو لم يحصل؛ أو حصل تغير في سعر الصرف أو لم يحصل. بشكل عام، هناك مجموعات وفئات مختلفة لها مصالح قد تكون متطابقة أو متصارعة حول نتائج السياسة النقدية، وهم: الدولة، والصناعيون، والقطاع المصرفي والمالي، والعمّال (النقابات). وهذا قد يفسر تغيّر السياسات بين مرحلة وأخرى. فإذا قسمنا المجتمع إلى رأسماليين وعمّال، وكانت العلاقة بين الربح والأجر متناقضة (علاقة كلاسيكية)، فإن السياسة النقدية التوسّعية تؤدّي إلى ارتفاع في الأجور وانخفاض في حصّة الربح. أمّا إذا كانت علاقة الأرباح والأجور متكاملة (علاقة كينزية)، فإنها تؤدّي إلى زيادة في الأرباح والأجور معاً. في الحالة الأولى، سيعارض الرأسماليون أي سياسة نقدية توسّعية، بينما سيدعمها العمّال (حالة الحقبة النيوليبرالية). في الحالة الثانية، ستدعم كلتا الفئتين هذه السياسة (حالة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الستينيات).
في لبنان، إن البنية الاقتصادية ــــ السياسية مرّت، قبل النظام الحالي، بثلاثة أنظمة منذ 1964. النظام الأول (1964-1971) كانت تُهيمن عليه المصالح المصرفية، وبالتالي كانت السياسة النقدية ضد التضخّم. وشهد النظام الثاني (1971-1979) تقارباً في المصالح بين البورجوازية الصناعية وتلك المالية، ما أرسى نوعاً من سياسة نقدية أكثر مرونة تجاه التضخّم. وفي فترة 1984-1992، أصبحت السياسة النقدية أكثر لمصلحة تخفيض قيمة العملة وإطلاق التضخّم. وظهرت هذه السياسة نتيجة بيئة اقتصادية ــــ سياسية جديدة تميّزت بما يأتي: صناعة تتّجه نحو التصدير، أجور اسمية غير مرنة؛ قطاع مالي ومصرفي يتّجه إلى المضاربة والاستفادة من انهيار سعر الصرف؛ وأزمة مالية وسياسية للدولة. (أنظر مقالتي)

الاقتراح 3
الذهب ليس ذات أهمية. إن إصدار النقود الورقية وعدم أهمية الذهب في دورة الأعمال يجعل الذهب أداة قديمة للاستخدام في استقرار الاقتصاد وحتى في الاستقرار النقدي. كما أن الذهب يعكس أيضاً عقلية مركنتيلية بائدة.
في أوائل التسعينيات، أذكر أن إحدى المجلّات وضعت صورة الحاكم الجديد لمصرف لبنان آنذاك تحت عنوان «حامي الذهب». هذا التفكير الاقتصادي اللبناني الذي كان، ولا يزال، سائداً في بعض الأوساط، يعتبر أن الذهب ضمان للاستقرار الاقتصادي وللرفاهية. لكن العلاقة بين الاستقرار الاقتصادي وبين مجرّد وجود احتياطيات الذهب ليس له أساس نظري. فالدور التقليدي للذهب، كضامن لاستقرار الأسواق والذي كان يعمل خلال أيام استعمال الذهب كعملة أو كداعم للعملة، لا ينطبق على اقتصادات النقد الورقي واقتصادات الائتمانcredit economy. ومن طبيعة اقتصادات السوق الحديثة أن الذهب لا يمكن أن يكون ضماناً ضد طباعة النقود، كما يمكن ألا يكون فعّالاً في الدفاع عن قيمة العملة، وما حدث خلال الثمانينيات وأوائل التسعينيات أثبت ذلك، إذ لم يمنع وجود الذهب التضخّم ولا انهيار العملة. كما أن الذهب ليس له عائد، كما أنه مُضارب speculative، وتخزينه مُكلف. وبالتالي فإن استعمال الذهب كجزء متحرّك من محفظة استثمار ديناميكية كان من الممكن أن يؤدّي إلى احتياطات أعلى لمصرف لبنان من تلك الموجودة حالياً. إذاً، ينبغي التخلّي عن تشييء الذهب (gold fetishism) ومعه الفكر المركنتيلي القديم.

الاقتراح 4
الفكر الاقتصادي مهم. إن العقيدة الاقتصادية السائدة لدى الاقتصاديين والطبقات الحاكمة لها تأثير على اختيار السياسة النقدية.
إن تاريخ السياسة الاقتصادية في الدول الصناعية الغربية يزوّدنا بأمثلة كثيرة عن هذه العلاقة بين الفكر والسياسة الاقتصادية. في لبنان، لم تتبنّ الدولة بعد الاستقلال النظرية الكينزية كخيار للسياسة الاقتصادية، إذ كانت الميزانيات المتوازنة واستقرار الأسعار وتراكم الاحتياطيات الأجنبية من الأهداف الرئيسة للحكومات اللبنانية المُتعاقبة منذ الاستقلال. وقد انعكس هذا في أهداف مصرف لبنان، حيث اعتبر النائب الأول الأسبق لحاكم المصرف عبد الأمير بدر الدين أن غاية المصرف هي «ضمان أساس التقدّم الاقتصادي والاجتماعي الدائم ... إن كلمة التقدّم هنا أكثر عمومية من النمو، وتعني أي نوع من التحسّن الاجتماعي».
أكثر من ذلك، في عام 1984 كان الخيار الفكري لمصرف لبنان واضحاً، إذ ورد في النشرة الفصلية الرابعة من تلك السنة: «اللبنانيون اليوم لا ينتجون ما فيه الكفاية لتأمين مستوى الاستهلاك الذي عهدوه. فلا يمكن بالتالي لأي إجراءات إدارية أو حتى نقدية محض أن تؤثّر فعلاً على مستوى المعيشة الفردي، ما لم تتوافر شروط العمل والإنتاجية العالية والنمو الاقتصادي الحقيقي. فالزيادات في الأجور المفروضة على المؤسسات بداعي غلاء المعيشة مثلاً، والتي لا ترتبط في معظم الحالات بأي زيادة في الإنتاجية، تساهم في زيادة نسبة التضخّم عن طريق زيادة كلفة الإنتاج ... كذلك تؤثّر الزيادات القسرية في الأجور على مستوى البطالة».
كان هذا مقدّمة لما سيحدث لاحقاً من تسارع انهيار العملة والتضخم، الذي أدى إلى الخفض الفعلي للأجور «المفروضة» ووقف ارتفاعها «القسري»، التي كان يشكو منها التقرير!
عاجلاً أو آجلاً، سيأتي التغيير في كل أبعاده إلى مصرف لبنان، وسنقف مرة أخرى أمام خيارات عدّة هي بالأساس لا تتصل بالأشخاص فقط، بل بالمصالح الاقتصادية. سُيِّر المصرف المركزي بالنظرة ذات البعد الواحد لفترة طويلة، لا لـ«عبقرية» أو «تقنية» ما، بل لأن قيام أرستقراطية مالية، استفادت من تراكم الثروة التي أتاحتها فوائد عالية مع دين عام واقتصاد ائتماني، هي التي أبقت على هذه السياسة الجامدة. وعندما يأتي هذا التغيير، على الجديد أن يعكس مصالح قطاعات واسعة من المجتمع اللبناني وأن يكسر احتكار نفوذ المصرفيين في عملية صنع القرار. مثل هذا التحوّل الديموقراطي سيحقّق توازناً بين الأهداف الاقتصادية المختلفة مثل الناتج والتضخّم والتوظيف وميزان المدفوعات والاستقرار النقدي. وهذا كلّه مرتبط بالتخلّي عن «الأسطورة»، والاستعداد للتغيير في الاقتصاد السياسي للبنان، الذي من دونه لا تغيير في أي مكان في الدولة ومؤسّساتها.