«إن الثورة السياسية هي ثورة المجتمع المدني... فالثورة السياسية أنهت الصفة السياسية للمجتمع المدني»كارل ماركس

كانت الانتخابات اللبنانية الأخيرة مسرحاً لتجلّي عمل نوع جديد من التشكيلات السياسية عُرفت بـ«المجتمع المدني». وكانت قد برزت قبل ذلك بشكل واضح خلال الحراك المدني في عام 2015 وفي الإنتخابات البلدية عام 2016، وخصوصاً في بيروت. وكان لهذا الصعود «السياسي» للقوى الجديدة وقعاً واسعاً، وإن لم يُترجم بوصولها إلى مواقع السلطة السياسية. وارتبط هذا الوقع أيضاً بنوع من الارتباك الذي ساد أوساطاً عدّة فوجئت بظهور حركات جديدة، وإن مبعثرة، لا تنتمي إلى الجسم السياسي الذي حكم لبنان منذ الطائف حتى الآن.
فلاديمير كازانفسكي ــ أوكرانيا

تعود هذه الحيرة الى أن المفهوم نفسه لا يزال غير مفهوم إلى حدّ كبير حتى من الذين يَحْمِلون (أو يُحمّلون) لواء أو صفة «المجتمع المدني». فقوى السلطة الطائفية تعتبره، في أحسن الأحوال، تجمّعاً أخلاقياً لمواطنين لا بدّ منه «لتصحيح أخطاء السياسيين»! وفي أسوأ الأحوال تعتبره جزءاً من حصان طروادة ضدّ هذه القوى على اختلاف مشاربها. حتى إن البعض من الشعب يعتبرونه (على شبكات التواصل الاجتماعي بشكل خاص) تجمّعاً لخارجين عن السياق العام لطبيعة الأمور، وصولاً إلى كونهم منحلّين دينياً وأخلاقياً واجتماعياً؛ والبعض الآخر من الشعب يعتبرونه ملاذاً لمطالبهم المحقّة وللعدالة، مثل حقوق المرأة والمعوّقين وعاملات المنازل وغيرهم. أما اليسار، فأيضاً، وربّما لأسباب تتعلّق بتوقيت ظهور «المجتمع المدني» على المستوى العالمي إبّان انتفاضات 1989، ينظر بريبة وحتى بازدراء إلى هذه القوى الجديدة، ولو أنها كانت شريكته (وإن بشكل غير مباشر) في حراك 2015 وفي الانتخابات النيابية الأخيرة. إذاً اليسار والشعب والأحزاب الطائفية كلّها في حالة حب ــــ كراهية أو علاقة انفصامية مع المجتمع المدني. أخيراً، المجتمع المدني نفسه لا يعرف أن يُعرّف نفسه إلا أنه «ليس»، أي بالسلبي، وكأنه إلى حدّ كبير لا يعرف ماذا يريد. من أجل فهم كل هذا، تطرح بعض الأمور.

لماذا المجتمع المدني الآن؟
لا أحد بالطبع يستطيع أن يؤكّد متى كانت المرّة الأولى التي استعمل فيها مفهوم «المجتمع المدني» لوصف هذه الظاهرة على المستوى المحلي. أما على المستوى العالمي، فإذا وضعنا «المجتمع المدني» على «Google Books Ngram viewer»، وهو المحرّك الذي يعطي وتيرة استخدام الكلمات أو العبارات أو الأسماء في الكتب عبر التاريخ، نرى أن بدايات استعمال هذا المفهوم كانت في حوالى عام 1750 واستمرّت تقريباً بالوتيرة نفسها حتى نهايات القرن التاسع عشر. بعد ذلك، انخفضت وتيرة الاستعمال حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي، حين انفجر بشكل ملحوظ استعمالها! إذاً، وفقط من هذا المؤشر، نرى أن مفهوم المجتمع المدني ظهر تقريباً مع بدايات الرأسمالية وخفّ استعماله مع تجذّر الديموقراطيات الرأسمالية وظهور الدول الإشتراكية، ثم عاد بقوة أكبر مع انهيار المنظومة الإشتراكية في أوروبا في خلال الثورات المخملية ضدّ الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، حيث وضع بعض منظّري الإصلاح مفهوم المجتمع المدني واستقلاليته بوجه الدولة الشيوعية الشمولية. إذاً، في الواقع السياسي اليوم، نحن لا نزال نعيش إرهاصات هذه المرحلة من «عودة» المجتمع المدني، الذي أخذ أشكالاً و/أو تعريفاً مغايراً إلى حدّ ما، عن تلك التي سادت مع ظهور الرأسمالية أو الحداثة.

المجتمع المدني والحداثة والرأسمالية
وفق هيغل، فإن المجتمع المدني (أو البورجوازي) هو حيث يعيش الإنسان كفرد خاص يحقّق رغباته وحاجاته الذاتية، وبالتالي يشكّل فضاءً للفرد في تعاملاته الاقتصادية والاجتماعية. وينتج من هذا التعامل طبقات ونظام عدالة وسلطات عامة تضع الفرد على سكّة اكتشاف الوعي الشامل universal consciousness، فمثلاً الجمعيات التي تمثّل طبقة رجال الأعمال، تعبّر عن المصلحة المشتركة لهذه الطبقة وليس عن مصلحة فرد معيّن، ولو أنها تبقى تمثّل فقط جزءاً من المجتمع المدني. وهنا يأتي ظهور الدولة السياسية تجسيداً لهذه الإرادة الشاملة التي ترتفع عن المصالح الخاصة الموجودة في المجتمع المدني وتحقّق تجسيداً نهائياً للعقل. وفي الرأسمالية، ينفصل للمرّة الأولى المجتمع المدني عن المجتمع السياسي. يقول ماركس في «المسألة اليهودية»: «إن الثورة السياسية هي ثورة المجتمع المدني... فالثورة السياسية أنهت الصفة السياسية للمجتمع المدني». فإذا قارنا الرأسمالية مع المجتمع الإقطاعي، نرى بوضوح أنه في الإقطاعية لم يكن هناك مجتمع مدني، بل إن سلطة أرباب الأرض كانت بمثابة جامع الكل. ففي الإقطاعية إن انتساب الفرد لنقابة الحرفيين أو التجّار guild هو الطريقة أو الوسيلة التي تضعه في تراتبية المجتمع السياسي، فلا انفصال بين المجتمع المدني والسلطة السياسية. يضيف ماركس في هذا الإطار أن «مجتمع الإقطاعية ذاب إلى قاعدته، إلى الإنسان الأناني... وهكذا أصبح الإنسان قاعدة الدولة السياسية، وبإعلانها حقوق الإنسان، فهي تعلنه كذلك... إن التحرّر السياسي هو تحويل الإنسان إلى عضو في المجتمع المدني كفرد مستقل أناني، وفي المقلب الآخر إلى المواطن، أو الإنسان الأخلاقي». إذاً المجتمع المدني وُلد مع الرأسمالية وهو مكان الفرد والاقتصاد وتراكم الرأسمال، من دون تشابك مع السلطة السياسية حُكماً كما في الإقطاعية.
يحاجج الكاتب أن نظام الشمولية الطائفية يعني فعلياً عدم وجود مجتمع سياسي مستقلّ عن الطائفة. لكن هذا التنظيم شبه ــــ الإقطاعي للعلاقات لم يستطع أن يلغي المجتمع المدني، الذي تظهر فيه أخيراً بوادر انفكاك عن هذا النظام، لذلك يبقى رهان التغيير مرتبطاً باستمرار هذا الانفكاك وتسارعه، لتصبح معه دينامية المجتمع المدني ثورية، بحيث إنها المكان الذي يُطلق الثورة السياسية التي ستقضي على النظام الطائفي.


إذاً المجتمع المدني في الرأسمالية هو في حالة تدفق (flux)، وهو ليس كما يُوصف حالياً، على أنه مجموع الجمعيات الأهلية أو غير الحكومية وتلك التي لا تتوخّى الربح؛ هو أكثر من ذلك بكثير. بالعودة إلى ماركس، في «مقدمة نقد فلسفة الحق عند هيغل»، فهو يضع المجتمع المدني مكاناً لظهور الطبقات وصراعاتها التي تحقّق التحرّر السياسي في مرحلة معيّنة، ويقول: «إذا كانت طبقة معيّنة (في المجتمع المدني) تمثل طبقة التحرّر، فإن طبقة أخرى عليها أن تكون طبقة القمع الواضحة. إن الأهمية السلبية العامة للنبلاء ولرجال الدين الفرنسيين هي التي شكّلت الأهمية الإيجابية للطبقة التي عارضتهم ــــ البورجوازية».

المجتمع المدني والطائفية
في معرض النقاش حول المجتمع المدني في لبنان، الذي لم ينتهِ بعد وأصبح يذهب في اتجاهات غير واضحة، اعتبر البعض ما يمكن وضعه كالتالي: «لماذا كل هذه الضجّة؟ فالمجتمع المدني هو كل شيء ما عدا العسكر». ربّما، ولكن سأطرح هنا فرضية أن «في لبنان المجتمع المدني هو الجميع ما عدا الأحزاب الطائفية». وكلازمة (corrollary) لها «إن المجتمع المدني اللبناني هو المكان الذي ينبثق عنه مشروع مجتمع سياسي بديل». والفرضية واللازمة تنبعان من خصوصية تحوّل النظام الطائفي اللبناني من نظام المارونية السياسية إلى نظام شمولي بعد الطائف، وخصوصاً بعد 2005 (أنظر مقالتي).
إن نظام الشمولية الطائفية يعني فعلياً عدم وجود مجتمع سياسي مستقلّ عن الطائفة، والذي يتجلّى الآن سياسياً في الديموقراطية التوافقية ونظام المحاصصة الطائفي، كما يتجلّى إدارياً بالتحاصص بين الطوائف على كلّ مراكز الدولة الإدارية (في نفي تام لمفهوم هيغل حول طبقة موظّفي الدولة كالطبقة العالمية)، هو شبيه بالعلاقات التي كانت موجودة في المرحلة الإقطاعية في أوروبا. فانتماء الفرد إلى الطائفة هو الذي يضعه في سلّم التراتبية السياسية والإدارية للدولة، وهنا تقوم الأحزاب الطائفية بدور الوسيط بين الفرد والمجتمع السياسي. لكن، في الوقت نفسه، هذا التنظيم شبه ــــ الإقطاعي (quasi-feudal) للعلاقات، والذي أرساه نظام الطائف بشكل تدرّجي منذ 1991، لم يستطع أن يلغي المجتمع المدني الذي تطوّر في لبنان مع الرأسمالية اللبنانية.
هنا نستطيع أن نفهم كيف أن القوى الجديدة التي تشكّل عملاً سياسياً خارج الطائفة هي قوى المجتمع المدني. لكن المجتمع المدني هو أكثر من ذلك، هو يضمّ كل القوى المستقلّة عن الطائفة، وهو مكان للفعل السياسي الخارج عنها. بهذا التعريف، هناك ثلاث قوى أكثر أساسيةً من هذه القوى الجديدة في المجتمع المدني: الأحزاب اليسارية والطبقات الوسطى والعاملة (على حزب الكتائب أن يحسم خياره السياسي هنا!)؛ الطبقة الرأسمالية وتنظيماتها؛ والنقابات العمّالية، ومن بينها المهنية مثل المحامين والمهندسين والأطباء.
وهنا من الواضح أن أجزاءً من الطبقة الوسطى والمتعلّمة بدأت تتضارب مصالحها مع الطائفية وتجد تمثيلاً لها في القوى الجديدة. أما الطبقة الرأسمالية، فهي لم تفكّ بعد ارتباطاتها بالنظام الطائفي لأنها ترى فيه أداة للحفاظ على مصالحها، و هذا أمر ليس بجديد أو فريد من نوعه في علاقة الرأسماليين بالسلطة السياسية. يقول ماركس في «الثامن عشر من بروميير»: «إن البورجوازية تعترف بأن مصالحها تفرض عليها أن تُعفى من مخاطر أن تكون هي في الحكم... فمن أجل أن تحافظ على سلطتها الاجتماعية، على سلطتها السياسية أن تنكسر... ومن أجل أن تنقذ محفظتها، عليها أن تتخلّى عن التاج»! من هنا، فقط عندما ترى بعض الأقسام المتقدّمة للرأسماليين اللبنانيين أن إعادة التوزيع الطبقية هي أقل كلفة عليها من إعادة التوزيع الطائفية الحالية، يمكن أن يكون لها دور سياسي جديد. أما القسم الثالث، التي تنظيماته في أمكنة أخرى في العالم العربي كان لها دور خلال الانتفاضات في 2011، فهي في لبنان واقعة بشكل كبير تحت سحر وسيطرة النظام الطائفي مع بوادر انفكاك في المرحلة الأخيرة.
من هنا، فإن الانفكاك الذي بدأ يحصل تدرّجياً في السنوات الماضية لا يزال في أوله، ولا يزال غير فاعل سياسياً كما برهنت الإنتخابات الأخيرة. لكن بسبب البنية شبه ــــ الإقطاعية للنظام الطائفي وشموليته، يبقى رهان التغيير مرتبطاً باستمرار هذا الانفكاك وتسارعه، مُحفّزاً بأزمة نظام الطائف نفسه، وبالتالي تصبح معه دينامية المجتمع المدني ثورية، بحيث إنها المكان الذي يُطلق الثورة السياسية التي ستقضي على النظام الطائفي.