بلغت ميزانية المصارف اللبنانية في نهاية النصف الأول من هذا العام نحو 234.6 مليار دولار، من ضمنها نحو 23.7 مليار دولار قروضاً من مصرف لبنان، حصلت عليها المصارف بفوائد شبه مجانية (بين صفر و2%) ولآجال متوسطة وطويلة نسبياً، وذلك في سياق سلسلة واسعة من «الهندسات المالية» الجارية منذ عام 2016، وتمويل عمليات الدعم والدمج والإنقاذ وزيادة الرساميل والأرباح وتكوين المؤونات وإطفاء الخسائر.تمثل عمليات إقراض المصارف، كما شراء أو حسم سندات الدين السيادية، شكلاً من أشكال خلق النقود (طبع العملة)، إذ يجري إنشاء القروض المصرفية وزيادة عرض النقد، بحجّة دعم الفوائد الدائنة والمدينة وتمويل الحكومة وزيادة الموجودات بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان وتطبيق المعايير المحاسبية العالمية ومنع أي تعثر أو إفلاس أو خسارة أي وديعة، وفق ما يردّد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عند تعداده أهداف السياسة النقدية «غير التقليدية» المتبعة.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

يبيّن الرسم البياني أعلاه المدى العميق والخطير الذي بلغته هذه «اللعبة النقدية»، ولا سيما على صعيد ما يسمّى في المصطلحات الاقتصادية «أمولة الاقتصاد»، أي هيمنة القطاع المالي على ما عداه من قطاعات اقتصادية حيوية وإخضاع الدولة لمصالح رأس المال المالي، الخاضع لسيطرة المصرفيين وكبار المودعين وعدد قليل من المضاربين الأجانب، والذي يلعب مصرف لبنان دور مديره التنفيذي. فقد واصلت ميزانية المصارف (الموجودات/ المطلوبات) انتفاخها منذ النصف الاول من تسعينيات القرن الماضي، حتى أصبحت توازي نحو 438% من مجمل الناتج المحلي في العام الجاري (ويصل إلى أكثر من 505% في حال احتساب موجودات فروع المصارف والوحدات التابعة لها في الخارج). وهذا مؤشر سلبي خطير ودليل على درجة إرهاق عالية للاقتصاد من جراء حجم مدفوعات الفائدة المترتبة على خدمة المطلوبات المصرفية، ولا سيما أن معظمها بالعملات الأجنبية!
يقابل انتفاخ ميزانية المصارف انتفاخاً موازياً لميزانية مصرف لبنان، المقدّرة في نهاية حزيران/ يونيو الماضي بنحو 129.2 مليار دولار، أي نحو 241% من مجمل الناتج المحلي. وهو وزن ثقيل غير مسبوق، يشير بوضوح إلى حجم عمليات خلق النقود الجارية، التي تؤدّي إلى عملية إعادة توزيع معكوسة، واسعة وكثيفة، تساهم بزيادة قيمة الثروات الشخصية من دون أن تزيد قرشاً واحداً على رأس المال القومي، أو الاقتصاد الحقيقي.
في النصف الأول من العام الجاري، زادت ميزانية المصارف بقيمة 14.8 مليار دولار، فيما زادت ميزانية مصرف لبنان بقيمة 11 مليار دولار. بالطبع، توجد مصادر عدّة لهذه الزيادة، إلا أن المصدرين البارزين يتصلان بزيادة ودائع المصارف لدى مصرف لبنان بقيمة 9.3 مليارات دولار، وزيادة قروض مصرف لبنان للمصارف بقيمة 10.9 مليارات دولار. ما يعني أن 85% من زيادة ميزانية مصرف لبنان مصدرها ودائع المصارف لديه، و74% من زيادة ميزانية المصارف مصدرها قروض مصرف لبنان للمصارف.
حتى عام 2011، بقيت قروض مصرف لبنان للمصارف تقلّ عن 1.5 مليار دولار، وقد ارتبط معظم هذه القروض بعمليات تمويل الدمج المصرفي وتغطية مخاطر بعض المصارف المتعثرة وخسائرها وإعفاء أصحابها وإداراتها من أي مسؤولية. ولكن منذ عام 2013، بدأت قيمة هذه القروض ترتفع بوتيرة سريعة، من 1.6 مليار دولار في عام 2012 إلى 2.3 مليار دولار في عام 2013 وثم إلى 4.2 مليارات دولار في عام 2014 و5 مليارات دولار في عام 2015 ووصلت إلى 6.4 مليارات دولار في عام 2016. في هذه الفترة (2012-2016) كانت الزيادة في قروض مصرف لبنان للمصارف مدفوعة ببرامج التحفيز التي أطلقها البنك المركزي اعتباراً من عام 2013 لدعم العرض عبر خفض كلفة الفائدة والتشجيع على الاقتراض ودعم الأرباح وتفادي التعثّر في قطاع التجارة وسوق العقارات تحديداً، ولا سيما في مجالات السكن والاستهلاك. بداية، وضع مصرف لبنان بتصرّف المصارف تسليفات بقيمة 2210 مليارات ليرة بفائدة 1% لتعيد تسليفها إلى زبائنها بفائدة تصل إلى 5.5% في حينه. وأضاف مصرف لبنان تسليفات للمصارف بقيمة 1400 مليار في عام 2014، وبقيمة 1500 مليار ليرة في عام 2015، ومثلها في عام 2016، وكذلك لاحقاً في عامي 2017 و2018.
عمليات طبع العملة عبر إنشاء القروض للمصارف، أخذت طابعاً أكثر حدّة في ظل ما عُرف بـ«الهندسات المالية»، إذ ارتفعت قروض مصرف لبنان للمصارف إلى 12.7 مليار دولار في عام 2017 و23.7 مليار دولار حتى نهاية حزيران/ يونيو الماضي، ويقدّر أنها تجاوزت الآن 25 مليار دولار. ففي هذه الفترة (2016 ــ 2018) بدأ مصرف لبنان بتنفيذ عمليات مع المصارف بهدف تشجيعها على نقل موجوداتها بالعملات الأجنبية من الخارج إليه، فعرض عليها قروضاً بالليرة تساوي 125% من كل دولار تبيعه له أو تودعه لديه، فتربح المصارف من إيداعات الدولار لدى مصرف لبنان، ومن إعادة توظيف القروض بالليرة، التي حصلت عليها من مصرف لبنان بفائدة 2%، في سندات الدين وشهادات الإيداع بفائدة تصل حالياً إلى 12% (بلغ العائد الفعلي على الهندسات المالية في عام 2016 نحو 40%)، تضاف إلى الفائدة التي تجنيها من إيداع الدولار لدى مصرف لبنان. ولعل أبلغ تعبير عن نتائج هذه اللعبة النقدية يكمن في قيمة توظيفات المصارف في أدوات الدين السيادية (الحكومة ومصرف لبنان)، إذ بلغت في نهاية عام 2017 نحو 137.1 مليار دولار، أي أكثر من 266% من مجمل الناتج المحلي، وأكثر من 63% من مجمل الموجودات المصرفية في لبنان!