يُقدّر عجز الحساب الجاري للاقتصاد اللبناني في عام 2017 بنحو - 12.9 مليار دولار. ووفق تقرير "القطاع الخارجي (ESR) لعام 2018"، الصادر عن صندوق النقد الدولي، يحتل لبنان المرتبة 13 على قائمة البلدان الـ 15 التي سجّلت أكبر العجوزات في موازين الحسابات الجارية على صعيد العالم، وهذه القائمة مسؤولة عن نحو - 908.2 مليارات دولار من مجموع عجوزات الحسابات الجارية لجميع الاقتصادات، البالغ نحو - 1080.2 مليار دولار. وعلى الرغم من أن مساهمة الاقتصاد اللبناني في مجمل الناتج العالمي لا تتجاوز 0.06%، وعدد سكانه لا يتجاوز 0.07%، إلا أنه مسؤول وحده عن 1.2% من مجمل هذه العجوزات العالمية. يُصنّف لبنان على هذه القائمة الى جانب بلدان ذات أوزان اقتصادية وسكانية كبيرة، منها 4 بلدان من مجموعة الدول الصناعية السبع و10 بلدان أعضاء في مجموعة العشرين، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية التي تسجّل أعلى العجوزات في الحسابات الجارية، يليها (وفق الترتيب) المملكة المتحدة وكندا والهند وتركيا وأوستراليا والأرجنتين والجزائر والمكسيك وأندونيسيا ومصر وفرنسا، وتأتي باكستان وسلطنة عمان بعد لبنان.
ليس الحجم الصغير والوزن الخفيف فقط ما يميّز لبنان على هذه القائمة، فهو يحتل أيضاً المرتبة الأولى عالمياً على صعيد نسبة العجز في الحساب الجاري الى مجمل الناتج المحلي، إذ بلغت ربع الناتج المحلي (- 25%)، ويتقدّم لبنان بفارق كبير عن سلطنة عُمان التي جاءت في المرتبة الثانية (- 15.5%)، وتلتها الجزائر (- 13%) ومصر (- 6.5%) وتركيا (- 5.6%)، وبلغت النسبة في بقية البلدان على القائمة أقل من - 5%، منها 7 بلدان جاءت النسبة فيها دون - 3% من مجمل الناتج المحلي.
ما أهمية هذا المؤشّر الآن؟ وما فائدة هذه المقارنات مع اقتصادات أخرى كبيرة وصناعية ومختلفة جداً عن الاقتصاد اللبناني؟
يجدر التذكير، أولاً، بأن الحساب الجاري لأي اقتصاد يتضمن مجمل تدفقات السلع والخدمات (الميزان التجاري) والدخل الأولي (ولا سيما مدفوعات الفائدة) والدخل الثانوي (ولا سيما تحويلات المغتربين)، التي تجرى بين المقيمين وغير المقيمين. يعبّر رصيد الحساب الجاري عن الفارق بين مجموع الصادرات والدخل المستحق القبض من جهة، ومجموع الواردات والدخل المستحق الدفع من جهة أخرى، فإذا كان مجموع الأول أعلى من الثاني يكون فائضاً، والعكس يكون عجزاً. كما يعبر رصيد الحساب الجاري عن الفجوة بين الادخار والاستثمار في الاقتصاد المعني.
بعيداً عن هذه اللغة التقنية ومصطلحاتها ومحاولات شرحها، يعبّر عجز الحساب الجاري عن قيمة التمويل المطلوب سنوياً لإقفال حسابات التجارة والدخل مع غير المقيمين. ووفق تقديرات صندوق النقد الدولي، فإن قيمة التمويل المطلوب للبنان هذا العام تبلغ نحو 14 مليار دولار، أي ما نسبته 27.4% من مجمل الناتج المحلي. بمعنى أن الاقتصاد اللبناني عليه أن يسدد هذه القيمة بالعملات الأجنبية الى الخارج، وبالتالي عليه أن يؤمن مصادر التمويل، عبر زيادة مديونيته الخارجية واستنزاف احتياطاته الأجنبية، في ظل ضمور تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر واحتمالات تراجع نمو تحويلات المغتربين.
تقول النظرية الاقتصادية الشائعة، التي يتبناها صندوق النقد الدولي، إن الفوائض والعجوزات في الحسابات الجارية للبلدان المختلفة ليست مشكلة في ذاتها بالضرورة، فقد تكون "ملائمة ومفيدة". المسألة تبدو بسيطة كما يجري تصويرها: "الاقتصادات النامية تحتاج إلى الاستثمار كي تنمو، وهي (غالباً) تستعين بالموارد الخارجية، عن طريق استيراد سلع أكثر مما تُصَدّر والاقتراض لتغطية العجز الضمني. وفي المقابل، تحتاج البلدان الغنية، التي تبرز فيها ظاهرة شيخوخة السكان، إلى الادخار استعداداً للوقت الذي تتقاعد فيه العمالة، ولذلك، فهي تحتفظ بفوائض وتُقْرِض البلدان ذات العجز".
تسيطر هذه النظرية على الرغم من وجود أدلة كافية على أن المسألة ليست بهذه البساطة أو السذاجة. ولعل الحروب التجارية الجارية الآن وانتفاخ المديونيات العالمية (164 تريليون دولار، أي 225% من الناتج العالمي) وتعاظم الاختلالات والتفاوتات... هي من أبرز هذه الأدلة. بل إن صندوق النقد نفسه يعترف "بأن أرصدة الحساب الجاري قد تصبح مفرطة"، أي "تصبح أكبر مما تبرره أساسيات الاقتصاد والسياسات الاقتصادية الملائمة". وهو ما ينطبق على الحالة اللبنانية، إذ يظهر عجز الحساب الجاري كظاهرة بنيوية في الاقتصاد، مزمنة ومتمادية ومفرطة منذ زمن طويل، وهي تعيق النمو نفسه وتحل محله. ووفق التقرير المذكور، فإن"الاقتصادات التي تفرط في الاقتراض من الخارج، عن طريق العجوزات المفرطة في حساباتها الجارية، تصبح معرضة لتوقف التدفقات الرأسمالية بصورة مفاجئة، ما يزعزع الاستقرار ويزيد من احتمالات التعديلات المربكة في أسعار الصرف وأسعار الأصول لدى البلدان المدينة". وهذا ما نواجهه اليوم في لبنان.
يُعتبر العجز في الميزان التجاري (السلع والخدمات) المصدر الرئيس للعجز في الحساب الجاري، ويقدّر أن يبلغ هذا العام 27.4% من مجمل الناتج المحلي اللبناني، أي ما يعادل 15 مليار دولار. في السابق، كان يتم تمويل هذا العجز عبر إدارة تدفق الرساميل (70% تقريباً نحو العقارات) وصافي تحويلات المغتربين (نحو 4 مليارات دولار حالياً) والاقتراض من الخارج (بما فيه زيادة ودائع غير المقيمين الى أكثر من 25% من مجمل الودائع)، وبالتالي زيادة مطلوبات المصارف المحلية (ولا سيما الودائع) واستخدامها على شكل ديون على الدولة والأسر، لتنتهي الى تمويل الاستهلاك العام والخاص، وبالتالي زيادة العجز في الحساب الجاري وزيادة الحاجات التمويلية... وهكذا دواليك.
لوهلة، بدا أن هناك "إيماناً" بأن هذه الطريقة لتمويل الاستهلاك صالحة الى ما لا نهاية، مثل "عجيبة" مستمرة. ولكن الآن دقّت ساعة الحقيقة، فالاقتراض الخارجي ينضب، وتزداد كلفته باطراد، وكذلك يتقلّص الاستثمار الأجنبي المباشر في ظل تنامي مؤشرات الأزمة العقارية وتزايد مخاطر أسعار الصرف والمصارف، كما أن أحوال البلدان حيث يعمل المغتربون اللبنانيون متدهورة... فما العمل؟ حتى الآن، ليس هناك أي جواب، ما عدا المزيد من "الهندسات المالية" التي يقوم بها مصرف لبنان للإبقاء على سيطرة اللعبة النقدية، وهذا النوع من الأجوبة هو المشكلة لا الحل، فهو لم يؤدّ إلا إلى المزيد من التقهقر في الاقتصاد الحقيقي وإخضاع المجتمع اللبناني لمديونية خارجية باتت تساوي أكثر من 200% من مجمل الناتج المحلي.