في 21 تموز/ يوليو الماضي، جرى ربط الباخرة التركية الجديدة (ESRAN SOLTAN) بمعمل الجيّة الكهربائي، وطويت بذلك شهور طويلة من التجاذبات والاتهامات المتبادلة في ما عُرف بـ«صفقة البواخر». تملك هذه الباخرة قدرة إنتاج 236 ميغاواط، إلّا أن ربطها بمعمل الجيّة بدلاً من معمل الزهراني، خلافاً لما طلبته المؤسسة، لن يتيح لها إضافة أكثر من 40 ميغاواط على الشبكة العامّة، وذلك بسبب محدودية قدرة خط النقل 150 ك.ف. والمحطّات الموصولة به، في حين أن ربطها بمعمل الزهراني (على خط النقل 220 ك.ف.) كان سيتيح إضافة كل طاقتها الإنتاجية على الشبكة وتوزيعها على نطاق جغرافي واسع.لسبب ما، ظهرت اعتراضات على ربط الباخرة في معمل الزهراني، علماً أن الجنوب كان سيستفيد من ذلك، إذ يبلغ الطلب فيه نحو 600 ميغاواط، ولا تستطيع مؤسّسة كهرباء لبنان تغطية أكثر من 250 ميغاواط، وهذا يضع الجنوب في خانة المناطق الأسوأ في لبنان على صعيد التغذية الكهربائية. فما الذي دفع إلى حرمانه فرصة تحسين التغذية؟
إعادة ترتيب أو سرد بعض التفاصيل قد تساعد في التقاط الجواب:
عشية الانتخابات النيابية الأخيرة، سارع مجلس الوزراء إلى اتخاذ سلسلة قرارات للبتّ بمشاريع مُعلّقة، ولا سيّما القرار 70 بتاريخ 26/4/2018، الذي نصّ على معالجات معيّنة لإنشاء معمل جديد في دير عمار واستقدام بواخر جديدة وتمديد عقود مقدّمي الخدمات الخاصة (الجباية وصيانة الشبكات) لغاية عام 2021، مع مخالفة فاقعة مرّت مرور الكرام، إذ قضى القرار بإضافة شركة رابعة إلى شركات مقدّمي الخدمات، هي شركة «مراد للصناعة والتجارة والمقاولات»، من دون مناقصة جديدة، إذ اقتُطِعَت مناطق الجنوب من نطاق التزام شركة «دبّاس» ومنحها للشركة المذكورة، وصُوِّر الأمر كما لو أنه بمثابة عقد من الباطن بين الشركتين، إلا أن القرار كان واضحاً لجهة أن تلزيم الشركة الجديدة مُستقل تماماً عن شركة «دبّاس»، لكونها ستقدّم فواتير مستقلّة وبشكل منفصل عن الشركة المُلتزمة قانوناً. المهمّ، أن القرار يوحي بما يكفي أن تلزيم شركة «مراد» كان شرطاً لتمديد عقد «دبّاس». ليس هذا فحسب، بل تضمّن القرار رقم 70 موافقة مجلس الوزراء على تعديل تدرّجي لتعرفة مبيع الكهرباء، وموافقته على مشروع قانون لتمديد منح الحكومة صلاحيات إعطاء رخص إنتاج الكهرباء من قبل القطاع الخاص، إلى حين تعيين أعضاء الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء، وموافقته أخيراً على توقيع عقد مع مؤسسة التمويل الدولية، التابعة للبنك الدولي، لتقديم الدعم لخصخصة الكهرباء.
الصورة أصبحت أوضح في قرار مجلس الوزراء رقم 84 بتاريخ 21/5/2018، المُصحّح بتاريخ 2/7/2018، فقد أُلغيَت المناقصة السابقة لاستقدام معامل كهربائية عائمة، وتقرر إطلاق مناقصة جديدة، عبر إدارة المناقصات، لشراء 850 ميغاواط «طارئة ومُستعجلة»، وربطها في معملي دير عمار والزهراني، وعدم حصرها باستقدام بواخر، كما كان الأمر في المناقصة السابقة، بل فتح الخيارات لتشمل استقدام معامل على البرّ أو الاستجرار من سوريا ومصر أو أي تكنولوجيات أخرى وأنواع محروقات متاحة.
في القرار نفسه، مُدِّد العقد القائم مع شركة «كارباورشيب»، المالكة والمُشغّلة للباخرتين السابقتين «فاطمة غول» و«أورهان باي»، لمدّة ثلاث سنوات إضافية، «مع قبول عرض هذه الشركة بتقديم الباخرة الثالثة مجاناً لمدّة ثلاثة أشهر! بذلك تكون الشركة قد ضمنت استمرارية عقدها حتى منتصف عام 2021 على أقل تقدير، بعدما كان عقدها الأصلي ينتهي بعد ثلاث سنوات «كحدّ أقصى» اعتباراً من عام 2013، وهي الفترة التي كان يُفترض أن يُنجز في خلالها مشاريع كهربائية عدّة، في مقدمها إنشاء معمل دير عمار- 2، لإضافة نحو 1500 ميغاواط إلى الطاقة الإنتاجية لدى مؤسّسة كهرباء لبنان وتغطية جزء مهم من الطلب الاستهلاكي على الكهرباء والاستغناء عن الباخرتين كلّياً.
في القرار نفسه أيضاً وأيضاً، وافق مجلس الوزراء على تحويل العقد الموقّع مع شركة J&P – AVAX القبرصية، المُتعلّق بإنشاء معمل دير عمار- 2، من صيغة عقد تعهدات (E.P.C) إلى صيغة عقد شراء طاقة طويل الأمد (P.P.A) لمدة 20 سنة قابلة للتجديد 5 سنوات، أي تحويل العقد من استثمار عام إلى استثمار خاص، على طريقة B.O.T.، إذ تقضي هذه الطريقة بإنشاء شركة لبنانية تتولّى إنشاء المعمل وتشغيله وبيع إنتاجه لمؤسّسة كهرباء لبنان، طوال مدّة العقد، وتعود ملكية المعمل بعدها إلى الدولة.
على الرغم من الارتباط الوثيق الواضح بين «صفقة البواخر» و صفقة إنشاء معمل جديد في دير عمار، ولا سيما أن الأولى (الاستثناء) جاءت بحجّة التمهيد للثانية (القاعدة)، إلا أن الاهتمام بقي موجهاً نحو الصفقة الأولى، بوصفها التجسيد الفاقع للفساد، وجرى طمس الصفقة الثانية، التي كان إنجازها سيمكّن مؤسسة كهرباء لبنان من امتلاك طاقة إنتاجية (الآن) تغطي أكثر من 20 ساعة يومياً من متوسط الطلب الاستهلاكي بدلاً من 12 ساعة (الآن) كمتوسط عام خارج بيروت الإدارية والاستثناءات.
في عام 2013، سارت «صفقة البواخر» و«صفقة دير عمار ــ 2» جنباً إلى جنب، فازت الشركة التركية بالأولى، فيما فازت شركة J&P – AVAX بالثانية. لكن الصفقة الأولى (المؤقتة) نُفذت، ويجري تمديدها واستقدام المزيد من البواخر. أمّا الصفقة الثانية (الدائمة) فعطّلت كل هذه السنوات، ولم تتحرّك مجدداً إلا بعدما قرر مجلس الوزراء السير بها كمشروع للقطاع الخاص وليس للقطاع العام، وبموجب عقد رضائي مع الشركة المُلتزمة، من دون أي مناقصة أو مزايدة أو حتى استدراج عروض أسعار، بذريعة أن الشركة تطالب بتعويضات وغرامات تبلغ نحو 350 مليون دولار، بسبب عدم التزام الدولة تنفيذ عقدها السابق بقيمة 500 مليون دولار، بعدما تولّت وزارة المال تعطيل هذا العقد لأن هناك ضريبة بقيمة 49 مليون دولار ليس واضحاً من سيدفعها: الشركة أم الدولة؟
هكذا تُرسم مسارات خصخصة الكهرباء، بهذه الطريقة المُكلفة جدّاً والفاسدة جدّاً، إذ يُعطَّل الاستثمار العام، وتشترك قوى نافذة مُختلفة في التعطيل، وتُرسى وقائع تسمح بتوزيع الحصص على أساس مناطق نفوذ وسيطرة. ومع ذلك، هناك من يقنع المقيمين في لبنان بأن خيارهم الوحيد للحصول على الكهرباء هو هذا النوع من الخصخصة.