في شهر آب/ أغسطس، بلغت معدّلات «الفائدة المرجعية في سوق بيروت» أعلى مستوى لها على الإطلاق، إذ بلغت 7.5% للدولار الأميركي و10.7% لليرة اللبنانية. تشكّل هذه المعدّلات أحد أهم المؤشّرات التي تعكس إتجاه الفوائد على الودائع في السوق، كما تحدّد اتجاه الفوائد على القروض في المستقبل، وبالتالي يمثّل هذا التطوّر أحد المؤشّرات المثيرة للقلق في سياق الأزمة الإقتصادية في لبنان.يشكّل الفارق بين معدّلات الفائدة التي تدفعها المصارف للمودعين، وتلك التي تتقاضاها من المقترضين، مصدر الربح الأوّل لها. لكن الفوائد من الجهتين تخضع لتحوّلات السوق المستمرّة، وهو الأمر الذي يدفع المصارف في كل العالم إلى الإستعانة بمعدّلات «مرجعية» موحّدة في كل دولة، وضمان ربحها من خلال التأكّد من وجود الهامش الدائم بين فوائد القروض والودائع. يساعد هذا المعدّل (عادة) المصارف على «تسعير» القروض، أي تحديد معدّلات الفائدة عليها. فيشكّل المعدّل المرجعي النسبة التي يضاف إليها هامش الربح المطلوب للمصرف وكلفة المخاطر عليه لتحديد معدّل الفائدة النهائي للقرض.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

تعتمد المصارف على هذا المعدّل أيضاً لتحديد معدّلات فوائد القروض المُتحرّكة. فالقروض الممنوحة على فترات زمنية طويلة (مثل القروض السكنية أو قروض التمويل الإستثماري) لا تخضع لمعدّلات فائدة ثابتة طوال فترة سداد القرض، بل يُعاد تحديد الفوائد عليها وفق هذه المعدّلات المرجعية. يهدف هذا الإجراء إلى التأكّد من استفادة المصرف مستقبلاً من أي ارتفاع مقبل في معدّلات الفوائد، من خلال القروض الممنوحة سابقاً.
تختلف طرق تحديد هذا النوع من المعدّلات المرجعية بين الأسواق. إحدى الطرق التي اعتمدها لبنان كانت باحتساب كلفة الأموال بالنسبة إلى المصرف، وهي ببساطة نسبة الفائدة التي يتم دفعها للمودعين لديه، بالإضافة إلى التكاليف التشغيلية للمصرف. بمعنى آخر: يعكس هذا المعدّل نسبة الفوائد للودائع من ناحية، ويحدّد بذاته نسبة الفوائد للقروض من ناحية أخرى.
إعتمدت المصارف قبل 2009 على معدّلات فائدة مرجعية عالمية، إلى أن قرّرت جمعيّة مصارف لبنان إطلاق معدّل «الفائدة المرجعية في سوق بيروت»، وصار يُقرّر هذا المعدّل في اجتماع مجلس إدارة جمعية مصارف لبنان. الإشكالية الأولى هنا تكمن في أن المصارف تقوم بنفسها بتحديد المعدّل، الذي يغيّر مردودها من القروض الممنوحة في السوق. فهذا المعدّل لا يقوم فقط بتحديد فوائد القروض الجديدة، بل يعيد تحديد فوائد القروض الممنوحة سابقاً على المدى الطويل، كون المصارف تُحدّد فائدة القروض الممنوحة على فترات زمنية طويلة كنسبة متحرّكة تتغيّر بتغيّر الفائدة المرجعية. لا يتنبه المُقترض إلى ذلك في معظم الأحيان، وقد لا يكون مُدركاً لوجود هذا المعدّل أساساً!
تكتسب مسألة تضارب المصالح أهمّية خاصّة هنا، إذ إن الجهة المستفيدة من الفائدة المتحرّكة على القروض الممنوحة سابقاً، تُحدّد بنفسها معدّلاً مرجعياً يعيد تحديد هذه الفوائد المتحرّكة. بينما من المُفترض أن يعكس هذا المعدّل بشكل عادل تحوّلات الفوائد في السوق لاعتماده كمتغيّر مُحايد في علاقة المقترض مع المصرف. في بريطانيا مثلاً، تم تحويل صلاحية الإشراف على تحديد معدّل ليبور المرجعي من جمعية المصارف إلى الجهات الرقابية سنة 2012، بعدما عصفت بالأسواق المالية فضيحة تلاعب بعض المصارف بالبيانات المُعتمدة لاحتساب هذا المعدّل.
في الفترة الماضية، شهدت الفائدة المرجعية في سوق بيروت إرتفاعات حادّة، لتصل إلى أعلى مستوياتها في شهر آب/ أغسطس. ثمّة دور معيّن هنا للارتفاعات في معدّلات الفائدة عالميّاً، لكن الأكيد أيضاً أن هناك دوراً كبيراً لعوامل داخل السوق اللبنانية.
فالهندسات المالية التي يقوم بها مصرف لبنان منذ سنتين كان لها دور كبير في دفع المصارف إلى رفع الفوائد على الدولار، بهدف امتصاص المزيد من السيولة، والمشاركة في العمليّات الاستثنائية المربحة. وهذا ما يظهره تسارع مسار ارتفاع الفائدة المرجعية على الدولار، فقد ارتفعت من 6.23% في بداية 2016 إلى 7.5% اليوم. في الواقع، كان تقرير «تقويم استقرار النظام المالي» لصندوق النقد الدولي قد حذّر من هذه النقطة تحديداً سنة 2017، حين تحدّث عن أثر الهندسات في تقليص فروق فوائد الليرة والدولار بفعل ارتفاع فوائد الودائع بالدولار الأميركي.
أمّا من ناحية الفائدة المرجعية على الليرة اللبنانية، فالارتفاع الأهم كان من 8.68% في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 إلى 10.7% منذ بداية 2018 ولغاية اليوم (لم تتغيّر منذ بداية السنة). والواضح أن رفع الفوائد على الودائع بالليرة الذي تلا حقبة استقالة الحريري هدف في ذلك الوقت إلى إعادة رفع الفارق بين فوائد الدولار والليرة اللبنانية، للحد من عمليّات تحويل الودائع إلى الدولار الأميركي.
بمعزل عن الأسباب، الأكيد أن ارتفاع الفوائد للعملتين بهذا الشكل يعني تكريس حقبة الركود الاقتصادي القائمة في البلاد. فمن ناحية، ستعني هذه المعدّلات رفع كلفة الاقتراض والتمويل الاستثماري، وبالتالي الحدّ من النشاط الاستثماري في السوق. ومن جهة أخرى، إن ارتفاع فوائد الودائع يعني دفع رؤوس الأموال في المستقبل نحو توظيف الأموال أكثر في الودائع المصرفية بدل الاتجاه إلى العمل الاستثماري.
الأهمّ من كل ذلك، هو الأثر الناتج من ارتفاع كلفة قروض الأسر اللبنانية المدينة (أكثر من 21.5 مليار دولار أميركي). سيكون ذلك بالتأكيد في مقابل ارتفاع مردود الفوائد لأصحاب الودائع، ولا سيما 0.8% منهم الذين يملكون أكثر من 51.8% من ودائع النظام المصرفي. ارتفاع الفوائد ببساطة هو تسريع للعمليّة التقليدية التي يقوم بها النظام المصرفي اللبناني في اقتصاد ريعي وغير منتج، عملية تتلخّص في إعادة توزيع عكسية للثروة باتجاه القلّة.