تعدّ ريادة الأعمال أو ما يعرف بالـEntrepreneurship، «الموجة» الجديدة التي تسيطر على توجيه الباحثين الشباب وطلاب الدكتوراه، وهي محور رئيس في معظم ورش العمل التي تتناول استكمال المهنة بعد تحصيل الشهادة. أبعد من ذلك، فإن بعض المؤسسات الأكاديمية قامت بتأسيس أقسام ومكاتب مخصّصة لاحتضان إطلاق الشركات الناشئة (Start-ups) وهو ما يعرف بالـ Incubators فما هي أبعاد هذه «الموجة»؟ لمَ تستهدف الباحثين الشباب؟ وما قد تكون النتيجة على العلوم من جهة، وعلى البعد الاقتصادي - الاجتماعي من جهة أخرى؟لطالما ارتبط البحث العلمي ومهنة الباحث بمسألة التمويل. وفي الدول الرأسمالية، باتت مهنة البحث تشبه مهنة المنظّمات غير الحكومية نوعاً ما، إذ يدفع هذا النظام المختبرات والباحثين إلى المنافسة الحادّة في طرح المشاريع المرتبطة بإشكاليات معيّنة سعياً لإقناع المموّل، خصوصاً في ظل تراجع ميزانيات البحث في شكل عام في العالم الغربي.
(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

وبما أن النموذج الرأسمالي لن يختلف بالجوهر بين تجربة وأخرى، فإن تجربة فرنسا تمثّل إحدى النسخات النيوليبرالية من هذا النموذج، لا سيّما بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية، التي حقّق النيوليبراليون فيها انتصاراً كاسحاً تمثّل بفوز إيمانويل ماكرون، ثم بتحقيق أكثرية مطلقة داخل السلطة التشريعية. وما كانت إلا أشهر قليلة حتى بدأت مفاعيل سياساتهم تظهر في الشارع الفرنسي على شكل تظاهرات نقابية وشعبية وحزبية، ثم إضرابات عدّة كان أبرزها إضراب عمّال المؤسسة الوطنية للسكك الحديدية (SNCF)، كما إضراب عمّال ومراقبي المطارات، والإضرابات والمواجهات التي خاضها الطلاب في مختلف الجامعات والمدن الفرنسية إثر التعديلات البنيوية في آليات التسجيل في الجامعات.
إلا أن مفاعيل أخرى باتت تلوح في الأفق، إذا حاولنا النظر في شكل أعمق من الأحداث اليومية، لا سيّما ضمن الأطر الأكاديمية الرسمية، أي الجامعات والمؤسسات البحثية العامة (أبرزها المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS)، ففي ظل سياسة تخفيض ميزانية القطاع العام والمؤسسات الرسمية، يتنبّأ معظم الباحثين والأساتذة - الباحثين تراجع عدد فرص عقود العمل المُثبتة في السنوات المقبلة (والتي تستلزم امتحان دخول ولجان تقييم)، كما تخفيض ميزانية البحث، ما سيؤدي إلى تراجع عدد مشاريع التمويل وانخفاض قيمتها. إن كل هذا التراجع سينعكس بطبيعة الحال على مصير الباحثين الشباب، إذ سيجدون أنفسهم أمام فرص عمل محدودة في مقابل منافسة عالية، كما أن فرصة الحصول على عقود موقتة في البحث، لا سيّما ما يعرف بالـ Post-Doc، سيزداد صعوبة، في حين يشكّل هذا العقد حتى الآن أحد البدائل المُتاحة، كما ضرورة للنجاح في امتحانات الدخول والتثبيت، خصوصاً إذا ما تم خارج فرنسا، وهذا ما بات يتم التشديد على أهمّيته أخيراً من أجل الحصول على وظيفة ثابتة، وتأتي هنا المفارقة، إذ يعتبر الكثير من الباحثين أن من سيجد فرصة في الخارج، سيفضّل على الأرجح البقاء هناك بدلاً من العودة إلى فرنسا.

منافذ بديلة ضمن الأطر السائدة
في حالة التراجع هذه، سيتطلّع الباحث الشاب إلى خطة بديلة، مبتعداً من القطاع العام الأكاديمي والبحثي، ومتجهاً نحو القطاع الخاص، أي الشركات والتطبيق الصناعي، ليصطدم بالمنافسة مع الحاصلين على ديبلوم في الهندسة، وهذه معضلة كلاسيكية في فرنسا، إذ تفضّل معظم الشركات عادة توظيف المهندسين لا الدكاترة، لأنهم بالأساس موجّهين نحو العمل في الصناعة، ولأن الشركات غالباً ما تمتلك قنوات تبادل مع مدارس الهندسة. إلا أن السلطة الفرنسية باتت تسعى في الآونة الأخيرة لكسر هذه المعضلة وفتح الفرص أمام الدكاترة للدخول إلى القطاع الخاص (ما سيكون على حساب المهندسين بالضرورة، وهنا تناقض جديد ضمن السياسة السائدة). لكن لا تعتمد السلطة على هذا «الحل» فقط، بل تذهب لطرح فكرة تأسيس الشركات والتشجيع عليها عبر أساليب عدّة، تعتمد جميعها على فكرة «الابتكار» ككفاءة يتميّز بها الباحث، ما يدفعه غالباً للتفكير بـ«مشروع مبتكر» يؤسّس على ضوئه الشركة ويذهب للدفع بها نحو الحصول على تمويل المستثمرين والاقتراض من المصارف، فيكون قد تخلّى عملياً عن البحث العلمي وذهب لريادة الأعمال ومحاولة خدمة الربح ورسملة الشركة (وتسديد الديون والفوائد طبعاً)، لتصبح مهمته المنافسة في السوق حيث تسود قواعد التجارة والاستهلاك، لا قوانين الطبيعة والعلوم، ولا الاكتشاف والإجابة على المعضلات البحثية.
يُدفع الباحث الشاب للتخلّي عملياً عن البحث العلمي لتصبح مهمته المنافسة في السوق لا الاكتشاف والإجابة على المعضلات البحثية


وعلى رغم الحضور الثابت لإشكالية المنافسة في السوق، أي جوهر النيوليبرالية، والتي تعني بالضرورة فشل النسبة الأكبر من الشركات الناشئة في الاستمرار والتطور، وبالتالي عقم هذا «الحل البديل» عن كونه الحل المثالي للباحث الناشئ، فإن هذه المسألة تمرّ مرور الكرام في ورش العمل التوجيهية، في مقابل ضخٍ هائل لأيقونة «الإبداع والابتكار»، والتي تدغدغ أحلام الناشئين وطموحاتهم، خصوصاً في ظل غياب دور الفرد وقيمته، وبحثه المستمر عن مكانة له في المجتمع.

باحث في شركة خاصة
أما «الحل» الآخر المطروح ضمن السائد النيوليبرالي، فهو ذهاب حمَلة شهادة الدكتوراه للعمل في القطاع الخاص والتطبيق الصناعي، الذي قد يكون ضمن أقسام عدّة، أبرزها البحث والتطوير (R&D) ومراقبة الجودة وحتى بعض الأعمال الإدارية. إن هذا الخيار قد يبدو أضمن من حيث أن الشركات الكبيرة قد تتمتع بهامش من الاستقرار المالي مبدئياً (وهذا ما لم يعد مقنعاً بعد أزمة 2008 الاقتصادية)، لكنه محدود من حيث هامش حرية الباحث في إطار البحث والعلوم، إذ إن الشركات الخاصة والتي لا تبغي إلا الربح والمنافسة في السوق، لن تهتم بأي اكتشاف أو بحث ما لم يدخل في عجلة تسويقها لمنتجاتها، أي أنها لن تتبرّع بقرش من أجل خدمة المعرفة ونشرها، وهذا ما يتعارض كلياً مع دور الباحث ومهمّته ومهنته. أضف إلى ذلك، أنه وإن طرح فكرة مبتكرة قد تخدم التسويق، فسيكون تغيير سياسة الشركة المعتمدة شبه مستحيل، لا سيّما ضمن الشركات الكبيرة، بالتالي، لن يجد إبداع الباحث وابتكاره مكانة، وسيبقى دوره محدوداً ضمن آلية استغلال قوة عمله الجسدية والفكرية لتدوير عجلة الإنتاج ومراكمة الربح، وهنا نعود مجدداً إلى معضلة قيمة الفرد ودوره الاجتماعي واغترابه عنه.

مصير مشترك
في ظل هذا الأتون النيوليبرالي، يتبيّن لنا أن اغتراب الباحث وابتعاده عن دوره ومهنته كساعٍ للعلم والاكتشاف هو أمرٌ مفروض بهدف تركيز الثروة، وأن البحث العلمي والاكتشاف يبقى مقيداً بالمنافسة والربح والسوق، إذ إن تراجع ميزانية القطاع الأكاديمي والبحثي العام، أي تراجع إنتاجيته بالضرورة، سيعني تأخير التطوّر العلمي والتكنولوجي، كما تراجع القدرة على إيجاد الحلول للمعضلات الاجتماعية الأساسية، لا سيّما في الصحة والبيئة على سبيل المثال، ما سيؤدّي إلى تراجع مستوى تطوّر الدولة ككل. فالمهمة الأساسية للمؤسسات البحثية العامة هي في إيجاد سبل تطوير المجتمع وحياة الناس، عبر الاكتشاف ونشر الدراسات ومشاركتها ضمن المقالات العلمية (المُحتكرة من قبل الناشرين بالمناسبة)، كما ضمن التعليم الجامعي في شكل أساس، والذي بات مهدّداً هو أيضاً، بسبب تخفيض عدد الأساتذة- الباحثين في مقابل تزايد أعداد الطلاب، ما سيؤدي إلى انخفاض القدرة الاستيعابية للجامعات في مقابل ازدياد نسبة البطالة لدى حمَلة شهادة الدكتوراه، وهنا أحد التناقضات البنيوية في ظل النيوليبرالية، والتي يحاول ساستها إيجاد «حلول»، هي في حقيقة الأمر تحضير لأزمات أكبر، وذلك بالحدّ من سهولة وحرية الدخول إلى الجامعات عبر تحديد عدد الخيارات المتاحة لكل طالب، والتوجيه المُحدّد ونظام الترشح إلى الاختصاصات، ما سيرفع نسبة الشباب خارج الجامعات، وبالتالي سيسهّل عملية استغلالهم كيد عاملة رخيصة ضمن الشركات والمصانع. كل هذا بدلاً من فتح عدد أكبر من مقاعد الأساتذة-الباحثين، وبالتالي رفع القدرة الاستيعابية للجامعات، أي حل معضلتين في شكل متكامل يؤدّي إلى تطوير القطاع التربوي والإنتاج المعرفي والعلمي. إلا أننا وللأسف، نجد أنفسنا أمام سياسة لا تخدم سوى مراكمة الربح وتركيز الثروات في يد قلّة قليلة، على حساب قيمة الإنسان ودوره ومهمّته، كما على حساب الناس والدولة والمجتمع، المهدّدين جميعهم بالذهاب إلى الجحيم.