إلى حين فوز خليط من الأحزاب الشعبوية في إيطاليا في الانتخابات البرلمانية، التي جرت في آذار الماضي، كانت الشعبوية لا تزال تُعتبر على هامش الحياة السياسية في أوروبا والعالم. وعلى الرغم من انتخاب الشعبوي الأكبر دونالد ترامب، إلّا أن الكثيرين لا يزالون، لأسباب عدّة، يعتبرون أن الولايات المتحدة هي الولايات المتحدة، أي إنها تبقى هي هي، مهما تبدّل رؤساؤها و«أيديولوجياتهم»، لأن النظام، أو ما يُطلق عليه البعض الـsystem، هو الحاكم هناك أبداً. لكن اليوم، بعد إيطاليا، التي من المفترض أن تكون السياسة فيها جدّية ولها تبعات، أصبح من الصعب التغاضي عن حقيقة أن شعبوية جديدة أصبحت في الحكم أو على حافة الوصول اليه، من الولايات المتحدة إلى اوروبا الغربية والوسطى والشرقية. فمن خلال كل المؤشرات، يبدو أن الشعبوية في أعلى مراحلها.
(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

لكن، بعد أن كانت أمراً منسياً لمدة طويلة، لا يزال يخطئ الكثيرون في تفسير الشعبوية، أو يخلطون بينها وبين اليسار: فيسأل البعض كيف لا تكون الشعبوية يسارية؟ أو أليست اليسارية = الشعبوية؟ بالطبع، هناك نسخة يسارية كانت بالأمس حاضرة بقوة إبان حكم تشافيز في فنزويلا، ومنها اليوم نسخاً أكثر لطفاً في اليونان وإسبانيا. كما أن البعض بدأ يُفرّق بين شعبوية «سياسية» وأخرى «اقتصادية». يقول داني رودريك، أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد، إن الشعبوية الاقتصادية أفضل، لأنها تستجيب للمعضلات التي نتجت في الاقتصاد، والتي تتطلّب سياسات اقتصادية مختلفة تتفلت من سيطرة النظم التقنية وتعيدها إلى الحكومات المُنتخبة. وهذا النوع هو حميد، لأن لا صلة له بالعداء للأجانب والمهاجرين والعنصرية.

ما هي الشعبوية ومن هم اليوم أعداء المجتمع المفتوح؟
تعكس الشعبوية حالات متفرّقة، صبّت كلّها في مجرى صعود اليمين الجديد: من التمرّد على النخبوية والتقنية السياسية، المُمثلة بأجهزة الاتحاد الأوروبي والبنوك المركزية المستقلّة، التي يقودها أصحاب الياقات الذهبية، إلى التمرّد على السياسات والخطابات المُنمّقة لأوباما وأمثاله، والتمرّد على العولمة والانفتاح، اللذين أنتجا رابحين وخاسرين وعزّزا اللامساواة وأغرقا الغرب بالسلع والمهاجرين، وصولاً إلى ردّ الفعل على تغيّر البنى الاقتصادية نحو اقتصاد الخدمات وفقدان الطبقة الوسطى الأمان الاقتصادي. ولأنها حركة تمرّدية، بدأت تهدّد أسس الديموقراطية التي أوصلتها إلى الحكم.
في العام 1945، نشر الفيلسوف النمساوي كارل بوبر كتاباً من مجلّدين بعنوان «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، وأفرد كلا المجلّدين لما اعتبره، هو على الأقل، ألدّ أعداء هذا المجتمع المفتوح والديموقراطية، فاختار أفلاطون ليكون نجم المجلّد الأوّل، أمّا المجلّد الثاني فتقاسمه، بالطبع، جيورجي هيغل وكارل ماركس. أطلق بوبر هذا الحكم على كبار هؤلاء الفلاسفة، لأنهم تقدّموا بنظريات تاريخية عن التطوّر والمجتمعات البشرية، فتحوّلت أفكارهم إلى عداء للاختيار والإمكانات، أي للخيار الإنساني الحرّ وللديموقراطية. وأصبح بوبر بذلك فيلسوفاً صلباً لليبرالية. ولمدّة لا بأس بها، بعد العام 1991، كان التاريخ (للمفارقة!) يبدو وكأنه إلى جانب بوبر، فقد أنشأ البليونير، الرأسمالي المالي، الهنغاري ــ الأميركي جورج سوروس المُنظّمة غير الأهلية «مؤسسة المجتمع المفتوح» (Open Society Foundation)، التي أسهمت في «نقل» الديموقراطية إلى أوروبا الشرقية. لكن اليوم تحوّلت بعض هذه الدول التي تحرّرت من «أعداء المجتمع المفتوح» إلى أعداء لمؤسّستها! إذاً يتمّ اليوم (مثلاً) التضييق عليها في هنغاريا، التي يحكمها أسوأ اليمينيون، وصدر قانون «أوقفوا سوروس»، الأسبوع الماضي، الذي يحرم مساعدة المهاجرين غير الشرعيين، مُتهمة سوروس بحياكة المؤامرات الخفية ضد هنغاريا. وفي الولايات المتحدة، أصبح سوروس الهدف المفضّل لليمين، الذي اتهمته إحدى مؤسّساته بأنه «أكثر الديماغوجيين اليساريين المدمّرين في الولايات المتحدة». هؤلاء هم الشعبويون الذين ركبوا موجة العداء للشيوعية، والآن أصبحوا ألدّ أعداء الذين أرادوا الحرية. وهنا ليس فقط الرأسمالية من بدأت تأكل نفسها، بل الديموقراطية بدأت تأكل نفسها أيضاً.

هل الماركسية تساوي شعبوية يسارية؟
كما ذكرت، هناك نسخة يسارية من الشعبوية، وهي أتت في مراحل مختلفة لأسباب عدّة، ولكنها ليست ذات أصول نظرية صلبة. في المقابل، تحاول المفكرة الماركسية شانتال موفيه أن تؤسّس لأرضية نظرية لها، مفادها أن اليسار بحاجة إلى استمالة الطبقات والفئات الاجتماعية نفسها التي يجذبها اليمين، وأن السياسة هي أصلها صراعية، وبالتالي فإن استمالة «الشعب» ضد طبقة الـ1% ودخول اليسار مُعترك الصراع السياسي الحادّ بدلاً من طرح الحلول التي تحوّلت إليها الديموقراطية الاجتماعية هما الطريق الوحيد لإعادة إحياء يسار فاعل سياسياً.
ليست الرأسمالية من بدأت تأكل نفسها فحسب بل الديموقراطية أيضاً

طبعاً بعض الماركسيين لديهم القابلية للتحوّل نحو الشعبوية، لأن من السهل أن يكون الشعار السياسي يُردّد ويدعو إلى تحقيق رغبات «الشعب». وغالباً ما ارتبط هذا باليسار في أميركا اللاتينية بالصراع ضد الأوليغارشية وبإرهاصات الفقر والبؤس، وكون «شرايين أميركا اللاتينية مفتوحة» لمئات السنين أمام الاستعمار والإمبريالية والظلم والاستغلال، كما قال إدواردو غاليانو. ففي ظل عدم المساواة الكبير واليأس تنبت شعبوية كهذه. لكن الماركسية ليست كذلك، لا نظرياً، بالطبع، لأنها تنطلق من نظرية المادية التاريخية لفهم الواقع وتغييره، ولا حتى سياسياً لأنها لا تنزلق إلى الوعود غير الواقعية وغير المُستندة إلى الإمكانية الموضوعية، والتي تلعب على المشاعر لكسب الأصوات الجماهيرية. في هذا الإطار سأكتفي بمثلين من الواقع؛ عند انتهاء الحرب الأهلية، كان البلاشفة أمام سؤال: هل نستمر في الشيوعية الحربية إلى ما لا نهاية وندمر الاقتصاد خدمة لشيوعية مزعومة؟ كان قرار لينين واضحاً لا لُبس فيه، وأطلق سياسة «النيب» في العام 1921. وفي العام 1972، إبّان حكم تحالف الوحدة الشعبية في التشيلي برئاسة سلفادور الليندي، وقف الحزب الشيوعي، وهو عضو أساسي في التحالف ضدّ اليسار المتطرف الذي كان يريد تسريع عملية التأميم وزيادة الأجور وغيرها من الإجراءات، لأنه كان يعلم أنها ستؤدي، في ظروف الاقتصاد التشيلي آنذاك، إلى التضخّم ونقص السلع، وستكون لهذا تبعات سياسية خطيرة.

الأسواق ضد الشعبوية... ضد الديموقراطية
يتشارك منظّرو الرأسمالية الحقيقية مع الماركسيين بشيء، ألا وهو العداء للشعبوية، لأنها كما بعض التيارات، مثل اليسار الثقافي أو الحركات الدينية، تشترك جميعها في العداء الشرس لـ«عصر التنوير»، الذي أرسى الأسس الفلسفية والفكرية والعلمية للرأسمالية والاشتراكية على حدّ سواء. طبعاً، ما قاله الرأسمالي ــ الرفاهي (أي الذي يعيش على إعانات الدولة) إيلون ماسك مؤخراً، بأن كارل ماركس كان رأسمالياً لأنه كتب «رأس المال» هو محض خيال، لكن طبعاً ماركس أرسى فرضية أن لا اشتراكية من دون رأسمالية. اليوم نرى أن الأسواق التي هي تجسيد لسلطة الرأسمال وروحه تصوّت في إيطاليا ضد فوز الشعبويين، وحاولت مؤسّسات الرأسمال الأوروبية الضغط لتشكيل حكومة تكنوقراط عبر اختيار تكنوقراطي مؤيّد للتقشف لترؤس الحكومة. قد يكون هذا معادٍ للديموقراطية، كما اعترضت الأحزاب الفائزة التي استطاعت في النهاية إفشال خطّة حكومة التكنوقراط ووصلت إلى السلطة، لكن من الواضح أن الديموقراطية الانتخابية أصبحت تُنجب أعداء الديموقراطية نفسها. وهنا يُطرح سؤالٌ أصبح جدّياً وعلى قدر كبير من الإلحاح: هل على الديموقراطية الانتخابية أن تنتهي، لتحيا لاحقاً ديموقراطية حقيقية؟

نحو الاشتراكية
في خضم المتغيّرات الكبرى التي حصلت في النظام الرأسمالي منذ ثمانينيات القرن الماضي، والتي كان ما عرف بالنيوليبرالية الأساس الفكري لها، ظهرت الشعبوية اليمينية كردّ فعل غير متوقّع، منتفض على النيوليبرالية نفسها، وعلى الوعود الكاذبة التي أطلقتها، وعلى آثارها التي عصفت بالاقتصاد الرأسمالي. فكان ثمن الانتصار (المؤقّت طبعاً) على الاشتراكية وعلى الكينزية وعلى الديموقراطية الاجتماعية (التي أطلقت النار على رأسها)، هو تضعضع المجتمع الليبرالي ودخول العالم حيّز الصراعات على الهوية بأشكالها المختلفة القومية والعرقية والمُنحدرة من الجنس التي لن تجد حلولاً للمعضلات الأساسية التي تواجه البشرية بل ستزيدها سوءاً. اليوم العالم بحاجة إلى الماركسية لتعيد قاطرة التاريخ إلى سكّتها نحو عالم أفضل أصبح مُتاحاً بسبب التقدم التكنولوجي وتطوّر القوى المُنتجة والمعرفة الإنسانية التي أنتجتها الرأسمالية، لكنها الآن بدأت تعيقها. عندها بدل أن تأكل الرأسمالية نفسها هي والديموقراطية، وبدل أن يصبح «الإنسان الأخير» إنساناً متوحّشاً، ستفتح الاشتراكية آفاق التطوّر أمام المجتمع وأمام الفرد في آن واحد، بعيداً من العنف والتعصّب والفردية التي تصبغ بها الشعبوية والليبرالية واليسار الثقافي المجتمع بألوانها البشعة.