تسمح بعض الدراسات الجديدة المُقنعة حول التفاوت العالمي وتأثير الفجوات المُتنامية في المداخيل في الولايات المتحدة وأوروبا، بالخروج بخلاصات حول أسباب ارتفاع ما يُسمّى الشعبوية ـ اللغة الاصطلاحية السائدة لتلك العناصر في المجتمع، التي لم تعد تقبل النموذج النيوليبرالي لتطوّر رأس المال السوقي العالمي المُعولم خلال السنوات الأربعين الماضية.
(طلال الناير ــ السودان)

يرصد تقرير وضع هجرة الثروة العالمية The Global Wealth Migration Review اتجاهات هجرة الثروة العالمية وهجرة الثروة خلال السنوات العشر الأخيرة، ويتضمّن توقعات للسنوات العشر المقبلة. وبحسب التقرير، يبلغ مجموع الثروة الفردية في كلّ أنحاء العالم حوالى 215 تريليون دولار. ويمتلك الفرد العادي أرصدة صافية بقيمة 28.400 دولار (الثروة للفرد الواحد). ولكن في المقابل هناك حوالى 15.2 مليون فرد من أصحاب الثروات الصافية المُرتفعة في العالم، يمتلك كلّ منهم أرصدة صافية بقيمة مليون دولار أو أكثر. وأخيراً، نجد أثناء صعودنا سلّم التفاوت في الثورة، 2.252 ملياردير في العالم يمتلك كلّ منهم ثروة صافية تبلغ مليار دولار.
وفي الأرقام أيضاً، ارتفعت الثورة العالمية بنسبة 27% خلال الأعوام العشرة الماضية (من 169 تريليون دولار في نهاية 2007 إلى 215 تريليون دولار في نهاية 2017)، مدعومة بنمو كبير للثروات في آسيا. ويتوقّع أن ترتفع الثروة العالمية بنسبة 50% خلال العقد المُقبل لتبلغ 321 تريليون دولار بحلول عام 2027. ومرّة أخرى سيكون الارتفاع مدفوعاً بنمو كبير في آسيا. ومن المتوقّع أن تكون سريلانكا والهند وفييتنام والصين أسواق الثروة الأسرع نموّاً.
يقيس التقرير نسبة الثروات التي يتحكّم بها المليونيرات ـ فكلّما ارتفعت النسبة كلّما كان البلد يشهد تفاوتاً أكثر. والدول التي تشهد أكبر مساواة في الثروات في العالم (بناء على نسبة الثروة التي يملكها المليونيرات) هي اليابان (23%) ونيوزيلندا (26%) والنروج (27%) وأستراليا (28%) وكندا (28%) وألمانيا (28%) والسويد (28%) وكوريا الجنوبية (29%) وفنلندا (29%). ولكن تذكّروا أن هذا يعني أن اليابان التي تُعتبر الأعلى من حيث نسبة المساواة لا تزال تضمّ أفراداً يمتلكون 23% من جميع الثروات الشخصية وهو أمر ينمّ عن تفاوت وليس مساواة. ولدى اليابان (فقط!) 35 مليارديراً وهو أدنى من العدد في الولايات المتحدة والصين وروسيا والمملكة المتّحدة.
أما الدول التي تضمّ أعلى نسب من التفاوت في الثروات فهي السعودية (60%) وروسيا (58%) ونيجيريا (56%) والبرازيل (53%) وتركيا (52%)، وهذه الدول قد تكون من أكثر الدول فساداً (مقارنة لأي «حكم للقانون»). وبالنسبة إلى الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة يبلغ معدّل التفاوت في الثروة 36%، و40% للصين، و48% للهند مقابل معدّل عالمي بلغ 35%. نعم يمتلك المليونيرات ما نسبته 35% من مجموع الثروات الشخصية على شكل عقارات وأرصدة مالية أو سيولة.
من الأرقام اللافتة الأخرى نسبة الثروة التي يمتلكها المليارديرات في كل بلد. تتصدّر روسيا ـ حيث عائلات المسؤولين وقادة الأعمال ينتفعون من علاقاتهم مع الدولة ـ القائمة بنسبة 24% من مجموع الثروة الروسية. ومجدّداً تتصدّر اليابان قائمة الدول الأكثر مساواة حيث يمتلك المليارديرات 3% من مجموع الثروة فقط.
ومقابل هذا التقرير عن التفاوت العالمي في الثروة، ثمّة تفاوت في المدخول داخل الدول. فقد كتبت عن ذلك مراراً، ولكن الأمم المتّحدة أصدرت تقريراً عن الفقر يشير إلى أن الولايات المتّحدة، في ظل حكم دونالد ترامب، تدفع عن قصد، ملايين الأميركيين إلى الانهيار المالي، وتجرّدهم بكلّ قسوة من الطعام ووسائل الحماية الأساسية، بينما تغدق الثروات الهائلة على كبار الأغنياء.
يمتلك 2.252 ملياردير في العالم ثروة صافية تصل إلى مليار دولار لكل منهم


ووفق فيليب ألستون، المُقرّر الخاص التابع للأمم المتّحدة المعني بالفقر المُدقع حول العالم، يقود ترامب البلاد نحو «تغيير دراماتيكي في الوجهة» تكافئ الأغنياء وتعاقب الفقراء عبر حجب أصغر الاحتياجات عنهم. ويقول ألستون في تقرير أصدره أخيراً إن ذلك «هجوم مُمنهج على برنامج الرفاه في أميركا، يقوّض شبكة الأمان الاجتماعية للذين لا يستطيعون الصمود بمفردهم. إذ مجرّد البدء بإزالة أي إحساس بالالتزام الحكومي، سيتم الانتقال سريعاً إلى القسوة». وحذّر من أن ملايين الأميركيين الذين يكافحون من أجل تغطية نفقاتهم، واجهوا «الانهيار» المالي، مضيفاً أنه إذا «ألغيت كوبونات المساعدات الغذائية والوصول إلى الرعاية الطبية، وتمّ تقليص الدعم الإسكاني، سيكون التأثير عنيفاً على أولئك الذين يعيشون على الهوامش».
ووفق تقرير الأمم المتّحدة، يعيش 40 مليون شخص، في أعظم البلدان الرأسمالية، في الفقر. وأكثر من 5 ملايين شخص يعيشون في الحرمان المُطلق خصوصاً في العالم النامي. واليوم يعيش الأميركيون أقل ويمرضون أكثر من غيرهم في الديموقراطيات الغنية الأخرى. كما أن الأمراض الاستوائية التي تزدهر في ظروف الفقر آخذة في الارتفاع.


نسبة السجناء في الولايات المتّحدة هي الأعلى في العالم. أمّا مستويات تسجيل الناخبين فهي من بين الأدنى في الدول الصناعية: 64% من السكّان في سن التصويت، مقارنة بـ91% في كندا والمملكة المتّحدة، و99% في اليابان. عام 1980، كانت الولايات المتّحدة وأوروبا تقفان جنباً إلى جنب من حيث عدم المساواة، حيث كان الأغنى (الواحد في المئة) يكسبون 10% من الدخل القومي. ولكن ارتفعت هذه النسبة عام 2017، إلى 12% من الدخل القومي في أوروبا مقارنة بـ20% في الولايات المتّحدة. وينسجم ذلك مع اتجاه أوسع نطاقاً: فقد ارتفعت نسبة الأسر التي تحقّق دخلاً، وتحصل على مساعدات غذائية في الوقت نفسه أيضاً، من 19.6% في عام 1989 إلى 31.8% عام 2015.
في الوقت الذي نشرت فيه الأمم المتّحدة تحليلها الذي يدين الحكومة الأميركية، صدر المسح الاقتصادي السنوي للاحتياطي الفيدرالي الأميركي الذي وجد أن مجموعة كبيرة من الأميركيين معرّضون لتآكل آخر في مداخيلهم. ووجد أن أربعة من أصل 10 أميركيين في ضائقة كبيرة تمنعهم حتّى من تغطية نفقات الطوارئ البالغة 400 دولار من دون اقتراض الأموال أو بيع ممتلكاتهم. وتظهر الأرقام أن خُمس البالغين الأميركيين لا يستطيعون دفع فواتيرهم الشهرية بالكامل، والربع فوّتوا رعاية طبية ضرورية عام 2017 لعدم قدرتهم على دفع التكاليف. كما أن حوالى نصف الجامعيين تحت عمر الثلاثين اقترضوا لدفع كلفة تعليمهم. وربع المقترضين الذين ارتادوا جامعات «تبغي الربح» مُتخلّفين في الدفع مقارنة بأقل من عُشر المقترضين الذين يرتادون جامعات حكومية أو خاصة لا تبغي الربح. وأقل من خُمسَي البالغين غير المتقاعدين يعتقدون أن مدّخراتهم التقاعدية تسير على الطريق الصحيح، والربع لا يمتلكون مدّخرات أو معاشات تقاعدية على الإطلاق.
إن ازدياد التفاوت والفقر ونضال الملايين لتغطية نفقاتهم الأساسية، لا سيما في السنوات العشر الماضية منذ الكساد العظيم، يلعب دوراً في دفع الرأي العام بعيداً من الاقتصادات السائدة والأحزاب السياسية. في مقالة أخيرة، يشير كبير الاقتصاديين السابق في البنك الدولي برانكو ميلانوفيتش إلى لعنتين تلحقان بالرأسمال الأوروبي: الهجرة والتفاوت المتنامي. ويكتب: «واقع أن الاتحاد الأوروبي مزدهر جداً ويشهد حالة من السلام مقارنة بجيرانه الشرقيين (أوكرانيا ومولدوفا والبلقان وتركيا)، وأكثر أهمّية مقارنة بالشرق الأوسط وإفريقيا، تجعله مقصداً ممتازاً للهجرة. الفجوة في الدخل ليست كبيرة فحسب بل هي آخذة في الاتساع بين بلدان «قلب» أوروبا الـ15 والشرق الأوسط وإفريقيا. واليوم تبلغ حصة الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي في بلدان غرب أوروبا 40 ألف دولار فقط، في حين تبلغ 3.500 دولار في دول جنوب الصحراء (الفجوة تتراوح بين11 و1). عام 1970، كانت حصة الفرد من الناتج المحلي في غرب أوروبا 18 ألف دولار في مقابل 2.600 جنوب الصحراء (كانت الفجوة تتراوح بين 7 و1). ونظراً إلى أن الناس في إفريقيا يستطيعون مضاعفة مداخيلهم حتى عشر مرّات من خلال الهجرة إلى أوروبا، من غير المُفاجئ أن يستمرّوا بالتدفّق إليها على الرغم من كلّ العقبات التي تضعها أوروبا في وجه المهاجرين.
ويعتبر ميلانوفيتش أنه نظراً إلى حجم الفجوة في المداخيل، فإن ضغط الهجرة سيستمر لا بل سيزداد على الأقل إلى خمسين سنة أو أكثر ـ حتى لو لحقت إفريقيا بأوروبا خلال هذا القرن (أي حتى لو نمت بمعدلات أعلى من الاتحاد الأوروبي). من غير المتوقّع أن يبقى عدد الذين يطرقون أبواب أوروبا ثابتاً، نظراً إلى استحواذ إفريقيا على أعلى معدّلات النمو السكّاني المتوقّع، الذي سيؤدّي إلى ارتفاع أعداد المهاجرين المُحتملين في شكل كبير. وفي حين يبلغ عدد سكان جنوب الصحراء مليار نسمة راهناً، في مقابل 500 مليون نسمة في الاتحاد الأوروبي، من المتوقّع أن يصل خلال الثلاثين سنة المقبلة إلى 2.2 مليار نسمة في جنوب الصحراء، في مقابل 500 مليون نسمة في الاتحاد الأوروبي.
إلى جانب الهجرة، هناك مسألة أخرى تُغذّي الامتعاض الأوروبي وتكمن بازدياد اللامساواة في المداخيل والثروات. لا تعدُّ سويسرا أغنى من الهند لناحية الإنتاج السنوي للسلع والخدمات فحسب (يتراوح الفرق بين حصة الفرد من الناتج المحلي في البلدين، وفقاً لمعدلات سعر صرف السوق، من 50 إلى 1) بل هي أغنى منها أيضاً لناحية حصة الفرد من الثروة (يتراوح الفرق بينهما من 100 إلى 1).
ويخلص ميلانوفيتش بالقول: «حين يضع المرء هذين الاتجاهين معاً، أي ضغط الهجرة وعدم المساواة المُتنامية في شكل شبه تلقائي، وهما المشكلتان اللتان تسمّمان الأجواء السياسية الأوروبية راهناً دون وجود أفق حلّ لأي منهما، لن يكون مُفاجئاً بالنسبة إليه توقّع استمرار الخلافات السياسية. إذ من غير المرجح أن تختفي هذه المشكلات خلال السنوات القليلة المقبلة. كما من غير المنطقي اتّهام «الشعبويين» بقلّة المسؤولية، أو التصديق أن الناس غيّروا آراءهم بسبب «الأخبار الكاذبة». المشكلات هنا حقيقية، وتحتاج إلى حلول فعلية».
لنأخذ إيطاليا على سبيل المثال. هيمنت الأحزاب الشعبوية الإيطالية على الحكومة بفضل برنامج الحدّ من الهجرة وتقليص التفاوت. يريد حزب «الرابطة» طرد كل المهاجرين «غير الشرعيين» بينما يطرح حزب «خمس نجوم» اعتماد حدّ أدنى للأجر يتوافق مع المعايير العالمية، لمساعدة الباحثين عن وظائف ومن يشغلون وظائف مؤقّتة، وخصوصاً في جنوب إيطاليا. فالأضرار التي ألحقتها الإصلاحلات النيوليبرالية بالقوى العاملة خلال السنوات الأربعين الأخيرة، يكشف عنها تقرير حول ساعات العمل الأسبوعية والأجور منذ الكساد العظيم، ويبيّن أن هذه الإصلاحات صُمّمت لرفع ربحية رأس المال على حساب القوى العاملة.
بالنسبة لرأس المال، يعدُّ التهديد «الشعبوي» للنظام القائم، بمثابة الثمن المترتّب عن ازدياد اللامساواة


ويعدُّ قانون العمل الذي أقرّته حكومة وسط اليسار الديموقراطي في إيطاليا، من «الإصلاحات» الرئيسية التي اعتُمدت منذ الكساد العظيم. ففي حين أطلقت معظم حكومات غرب أوروبا إصلاحات في سوق العمل تهدف إلى زيادة «المرونة والتنافسية» وفقاً لمتطلّبات الاتحاد الأوروبي. أسفر قانون العمل في إيطاليا عن عقود لا تحمي من الطرد في السنوات الأولى من بدء التوظيف، وأدخل تغييرات عدّة تصبّ في مصلحة الشركات على حساب العمّال. ويشير أحد التقارير إلى «عدم وجود أي دليل حول حدوث فورة في التوظيف كالتي تمّ توقّعها»، لا بل على العكس «تمّ رصد زيادة في العقود المؤقّتة على حساب العقود غير المحدّدة بزمن، فضلاً عن زيادة عقود الدوام الجزئي ضمن الوظائف الثابتة الجديدة. ما يعني أن «قانون العمل» لم يكن فعّالاً، لا من حيث عدد الوظائف التي استحدثها منذ إقراره، ولا من حيث نوعية عقود العمل ومدّتها». من هنا، لا عجب أن يكون إلغاء قانون العمل، المهمّة الأولى التي تعلنها الحكومة الشعبوية الجديدة في إيطاليا (بعد طرد المهاجرين).
بالنسبة لرأس المال، يعدُّ التهديد «الشعبوي» لمركز الامتداد السياسي للنظام القائم، بمثابة الثمن المترتّب عن العولمة، وازدياد اللامساواة والكساد الطويل، بالتوازي مع ما يُسمّى «الإصلاحات النيوليبرالية». إلّا أنّ الشعبوية ستفشل، أيضاً، في وضع حدّ لزيادة اللامساواة والركود والهجرة العالمية للملايين.
Michael Roberts Blog
ترجمة لمياء الساحلي