يكتب هيديجر في «المذكّرات السوداء»، التي اكتُشفَت حديثاً، أنه «إذا حكمت الشيوعية في الصين، حينها فقط، يمكن المرء أن يفترض أنها أصبحت حرّة لـ (سطوة) التكنولوجيا. ما هي هذه العملية». ما الذي قصده هيديجر تحديداً؟يعتقد الباحث، يوك هوي، مؤلّف كتاب «السؤال حول التكنولوجيا في الصين»، أن هيديجر أراد أن يقول إن تراجع رفض الصين، أو تقلّص مقاومتها، للتكنولوجيا الغربية هو بمثابة إنجاز للفكر الغربي. ووفق يوك، جمع هيديجر بين المقاومة والعداوة لـ«الآخر»، وبين ما يصنعه الآخر. وبالتالي، رأى أن الشرط المحوري لإعادة تفعيل الفكر الشرقي هو أن يُطرح سؤال التكنولوجيا من جديد، ولكن من خارج القالب الغربي، بل في إطار ما يسمّيه في كتابه «كوزموتكنيكس»، أي الذي يقوم على توحيد النظام الكوني (بنية وآليّات عمل المنظومة الإيكولوجية التي نعيش فيها) مع النظام الأخلاقي عبر النشاط التقني.

يتطلّب ذلك، بحسب يوك هوي، مقاربة إشكالية الحداثة من خلال إعادة اختراع الذات والتكنولوجيا في آن واحد، مع إعطاء الأولوية لمبحث الأخلاق (بما يتعلّق بمستقبل البشرية). أما نتيجة هذه المساءلة، فيجب أن تكون إعادة بناء وحدة ميتافيزيقية، ليس على مستوى السياسة أو الثقافة، بل بين النظرية والتطبيق، بحيث يتمكّن المجتمع (العالمي لاحقاً) من مواكبة تطوّر المجال التكنولوجي ومدى اندماجه بالمجال البيولوجي والسياسي والثقافي والاجتماعي، بحسب شروط موضوعة من قبل ذاك المجتمع نفسه، على مستوى علمي وأخلاقي.
خسر الغرب الكون، لأن «الكوزمولوجيا» (أي دراسة نشأة الكون وبنيته وتاريخه وتطوّره) تحوّلت إلى علم الفلك، وبالتالي سلب العلم من الميتافيزيقية (جزء من فلسفة الوجود والقوى المُحرّكة للطبيعة) صدقيّتها. إذ على مدى القرون الماضية، ولا سيما القرن الأخير، وبدفع خاص من الرأسمالية التكنولوجية المُتفاقمة، نُقضَت فكرة أن الأشياء تحتوي بطبيعتها على معنى، وأنها تخدم هدفاً ربّانياً أو كونياً، كما يقول الفيلسوف الاسكتلندي، راي براسيير. وأخذت العدمية العلمية الشكل الآتي: «بتنا نفهم الطبيعة أكثر، ولكن هذه المعرفة لم تعد تتطلّب منا أن نفترض لها معنىً كامناً في صيرورتها».
لم تكن يوماً الأمور بهذه البساطة في ما يسمّى «العالم الثالث»، لأن الحداثة (وما أتى معها من تطوّرات فكرية وعلمية وتكنولوجية) جاءت إلى تلك البلاد على نحو عرضي، أي إنها ليس لها امتداد تاريخي. لذلك تعيش هذه الدول في حاضر لا ماضي له، ما يطرح بدوره تعقيدات حيال المستقبل.
يقول الفيلسوف الياباني نيشيتاني في اليابان الحديثة إن «الدين بات عقيماً، ليس لدينا حتى إلحاد حقيقي… وقد بُترَت العلاقة مع التقاليد، واختفى عبء التفاهم مع ما مضى، ولم يبقَ سوى الفراغ». ففيما يبقى الغرب عالقاً في الماضي، يعيد التفكير فيه مراراً، وربما كان يحاول أن يعيش «أمجاده» من جديد... تتصارع مناطق أخرى، كالشرق الأوسط، مع حاضر لا ينتهي واستحالة المستقبل. فيما تُسرع الصين وغيرها من الدول الآسيوية نحو المستقبل من دون مرجعية نظرية، تاركةً وراءها كل شيء من ماضٍ وتقاليدٍ وميتافيزيقيات، وحتى الإنسان كما نعرفه اليوم (وإن بات هذا المفهوم متأزماً).
يرى يوك هوي أن مقولة نيشيتاني تتناسب مع حال الصين أكثر، إذ ما زالت تُعَدّ بلداً «حديثاً دون حداثة»، ولكنّها مع ذلك باتت في الثلاثين عاماً الماضية، بعد «التحديثات الأربعة»، أحد المشاركين الأساسيين في صنع العالم الحديث والرأسمالية التكنولوجية المعولمة وتشكيلهما وتحديدهما وتطويرهما (يشير إلى استثمارات الصين في دول أفريقية كمثال على ذلك). ويرى يوك هوي أن الصين بذلك تشارك في تحقيق الحداثة الأوروبية، ويصرّ على أنه لا بدّ من إيجاد بديل، أي فلسفة تكنولوجية محلّية غير مستوردة من الغرب (ربّما بالإصرار نفسه لمقولة دولوز وغوتاري في سلسلتهما الرأسمالية والشيزوفرينيا: «إذا كنت عالقاً في حلم الآخر، فقد انتهى أمرك»).
يرى الكاتب أن الاتجاه الذي يتّخذه التطوّر التكنولوجي والذكاء الاصطناعي في الصين، ليس إلّا تحقيقاً للرؤية الأوروبية للحداثة، مشيراً إلى أن الرأسمالية هي «الكوزموتكنيك» المُهيمنة اليوم. المشكلة في هذا السرد هي اعتبار أن الرأسمالية التكنولوجية يمكن اختزالها بـ«حلم» أحد، أو بالأحرى، يمكن طرح الإشكالية عبر السؤال التالي: هل الحداثة التي تُحقّقها الصين هي حلم أوروبي؟ أم أن أوروبا كانت حلم هذه «العملية»، التي تكلّم عنها هيديجر، والتي تظهر على شكل حداثة أو حتى مستقبلية (Futurism)؟
يشير دولوز وغوتاري (الرأسمالية والشيزوفرينيا) إلى أن «لا وجود للرأسمالية بحدّ ذاتها، الرأسمالية تقف عند مفترق طرق كل أنواع التكوينات، بل هي دوماً نيو ــ رأسمالية. إنها تخترع وجهها الشرقي ووجهها الغربي، وتعيد تشكيلهما - وكلّه نحو الأسوأ». بمعنى آخر، يُبيّن ماركس بنحو واضح في «الجرندريسه»، أنه إذا لم يكن من الواضح لنا أن الرأسمالية ذات منطق وآلية خاصّة لا يحدّدها الوعي البشري، فإن ذلك سيكون شديد الوضوح عندما تندمج آلياتها بالتكنولوجيا المؤتمتة أو «الأوتوماتون»، وعي آلي ذات «روح». ويقول ماركس: «إن العلم الذي يحرّك الأطراف غير الحيّة للآلة، من خلال بنائها، للتصرّف في شكل هادف، كإنسان آلي، ليس موجوداً في وعي العامل، بل يُفرض عليه من خلال الآلة كقوّة غريبة، وهي قوّة الآلة بحدّ ذاتها».
أخذت العدمية العلمية الشكل الآتي: «بتنا نفهم الطبيعة أكثر، ولكن هذه المعرفة لم تعد تتطلّب منا أن نفترض لها معنى كامن في صيرورتها»


في هذا الإطار، يفهم التسارعيون (accelerationists) والمنظّرون للمستقبلية (Futurism) أن «حدثاً ما» يتشكّل وراء الواجهة، وراء الزعيم والدولة القوية والاقتصاد الدائم النمو، الذي يُطرَح للتعميم على العالم من خلال المشاريع الاستثمارية المُشتركة، وعمليات التقليد في الصناعة، والاستثمار الهائل في الذكاء الاصطناعي. هذا الحدث ليس أوروبياً، ولم يكن يوماً أوروبياً، بل هو «غريب» (alien) كما وصفه ماركس. فالرأسمالية تتشكّل بين التقاطعات، كما فهمها دولوز وغوتاري، وهي ذكاء اصطناعي عام وجد لذاته مساحات للتشكّل دون حدود أخلاقية وآمال إنسانية، في بلاد «حديثة دون حداثة».
بالاستناد إلى تعبير الفنان المستقبلي الصيني، لورينس ليك، إن «الخيال العلمي بات موجوداً بالفعل»، وإن المستقبل «وُجد من غير قصد ودون مؤلّف». لا يركّز ليك على الواقع السياسي الحالي للصين، بل على واقعها «الافتراضي»، ذاهباً في الاتجاه نفسه الذي يتّخذه ماركس في قوله باستقلال الرأسمالية عن رغبات وتحكّم البشر، الذين لا يشكّلون فيها إلّا «روابط ذات وعي» في المنظومة. وينظّر ليك لـ«ذكاء اصطناعي»، في كيان مُستقّل يُسمّى الصين، على أنه لا علاقة له بالصين دولةً أو اقتصاداً أو منظومةً إنتاجية مباشرة، بل يولد من «حتمية» ذهابها نحو «اندماج المجال البيولوجي بالمجال التكنولوجي»، نتيجة سرعة التطوّر وتفاقمه إلى حدّ خروجه عن طور أي سلطة بشرية مهما كانت قوية.
من هنا تأتي أهمّية كتاب يوك هوي، الذي يتتبع التطوّر الفلسفي في الصين والغرب ليظهر لنا تخلّف الفكر الصيني، بل الفكر الآسيوي ككل، حيال التكنولوجيا مقارنةً بالغرب. ولعل أحد شروط تحوّل الصين إلى قوة اقتصادية تكنولوجية بهذا الحجم، يكمُن تحديداً في غياب هذا النوع من الفكر، الذي سمح للصين بأن تصبح مجالاً للاختبار لأكثر من ثلاثة عقود. ولعل من الأفضل أخذ دعوة يوك هوي لإعادة التفكير بالذات البشرية والتكنولوجية أبعد من مجرد محاولة للهروب من حلم أوروبا، إلى محاولة للهروب من حلمنا كبشر بيوتوبيا إنسانية، عبر إعادة التفكير بموقعنا بنحو مطلق حيال الكون الذي تهندسه الرأسمالية التكنولوجية. هل سيسمح لنا المستقبل أن نبقى بشراً؟