«إن اللاعبين الأساسيين في الحكومة يعملون على أسس طائفية... (و) فشلوا بالاستمرار في العمل من أجل المصلحة الوطنية العراقية»تقرير بيكر-هاملتون في 2006

تفاجأ الجميع في العراق. المفاجأة الأولى: التحالف بين الحزب الشيوعي والصدريين. أما المفاجأة الثانية، الأشدّ وقعاً، فكانت تصدّر هذا التحالف نتائج الانتخابات البرلمانية. وكان هذا التحالف وفوزه قد أثارا حفيظة الكثيرين من أركان النظام الطائفي، وصولاً إلى ما يُسمّى «اليسار المعادي للإمبريالية»، بالإضافة طبعاً إلى الأميركيين والإيرانيين. قبل الانتخابات، قال علي أكبر ولايتي من بغداد: «الصحوة الإسلامية لن تسمح للشيوعيين والليبراليين بالعودة إلى الحكم» في العراق. وفي تعليق على نتائج الانتخابات قالت نيويورك تايمز إن فوز التحالف الذي يضمّ «الشيوعيين الذين هم على شفير الاحتضار» قد يؤدي إلى «تعقيد الاستراتيجية الأميركية في العراق».
ولكن السؤال الأهم إلى أين يتّجه العراق الذي دمّرته عقود من الحروب الخارجية والاحتلال والديكتاتورية العمياء والانقسامات الأهلية والإرهاب؟ المشهد في العراق سيئ جدّاً من حيث ترسيخ نظام التحاصص المذهبي، ومن حيث تبرير التدخلات الخارجية الأميركية والإيرانية. وحتى في شكله الظاهري يبدو العراق للعين المجرّدة أسوأ من ناحية الفقر والبنى والحضرية من ما قبل قيام الحقبة الجمهورية، إثر الانقلاب على الملكية في عام 1958. كما أن اعتماد الدولة العراقية المُزمن على النفط يعني أن العراق يكاد يتحوّل إلى دولة ريعية خالصة. وإذا أضفنا إلى كلّ ذلك الفساد المستشري ونظام المحاصصة الطائفي والتبعية للخارج، فإن العراق مرشّح أن يعيد إحياء دول جمهوريات الموز التي انتهت إلى حدّ كبير بعد التحوّلات السياسية والاقتصادية التي حصلت في أميركا الوسطى.
من هنا فإن فوز تحالف «سائرون» قد يكون نقطة التحوّل في الاقتصاد السياسي العراقي نحو إعادة إحياء الوطنية العراقية وتحقيق برنامج التحالف الذي يدعو إلى إنهاء نظام المحاصصة. كما أن قانون النفط والغاز الذي أقرّ أخيراً بعد أكثر من 15 سنة على الاحتلال الأميركي يحمل في طيّاته إيجابيات، أساسها إقامة شركة نفط وطنية، لإنهاء السيطرة الفعلية (de facto) لمراكز القوى على الموارد الطبيعية، ومعها سنوات من التخمينات والرهانات على التوزيع الجغرافي والإثني والمذهبي للنفط.

من التنمية إلى الريع
اللحظة الحاسمة على المستوى الاقتصادي في تاريخ العراق الحديث هي دخوله الحرب مع إيران في عام 1980، ومن ثمّ ما سُمّي حرب الخليج الأولى في عام 1991. واللحظة الحاسمة سياسياً كانت بإقامة نظام مذهبي في العراق بعد الاحتلال الأميركي في عام 2003. بعد ذلك تلاقت هاتان اللحظتان لتحوّلا العراق إلى ما هو عليه الآن. قبل ذلك، في السبعينيات كان العراق يحقّق إنجازات اقتصادية مُعتمداً على ارتفاع أسعار النفط بعد عام 1973، وعلى خطط استثمارية كبيرة في تنويع الاقتصاد والتنمية الصناعية. ونما الاقتصاد في شكل كبير في هذه الفترة، وإحدى أهم المؤشرات على ذلك هو نمو الناتج المحلي الفردي الذي ارتفع من حوالى 900 دولار (بأسعار 2005) في عام 1970 إلى حوالى 2000 دولار في عام 1979. وقد كان للتخطيط الاقتصادي من قبل الدولة الدور الأساسي في هذا التحوّل الذي يطلق عليه البعض «العصر الذهبي». إلا أنه بحلول نهاية السبعينيات كان هذا النموذج يتصدّع بعض الشيء نتيجة ما اعتبره بعض المحلّلين تسييساً لعملية التخطيط الاقتصادي، واستبداله على المدى الطويل بخطط الاستثمار السنوية وقيام الموازنات الموازية، ما وفّر مرونة أكبر للنظام لتحقيق أهدافه السياسية وسمح للموارد، وإن جزئياً، بالتدفّق لتحقيق أهداف النظام بدلاً من تعزيز التنمية.
آريس ــ كوبا

لكن ما أنهى العصر الذهبي فعلياً، هو قرار شنّ الحرب على إيران، الذي يُعدّ كارثياً على المستوى الاقتصادي، فأدّى ذلك إلى التراجع الاقتصادي الكبير وانتهاء مرحلة التنويع الاقتصادي رسمياً، كما راكم العراق الدين الخارجي الذي كان أحد أسباب غزوه الكويت، الذي بدوره أطلق كرة الثلج على مدى عشرات السنين من حرب الخليج الأولى والعقوبات على العراق، وبالتالي إلى الغزو الأميركي في عام 2003 حين دمّر الاقتصاد العراقي نهائياً، وتحوّل العراق فعلاً إلى أرض الخراب وصعود بعض الاقتصادات المحلية وطبقة من الأغنياء الجدد.
بعد عام 2003 وسقوط النظام الدكتاتوري وإدخال الديمقراطية إلى العراق ودخوله المنظومة العالمية مرة أخرى، كانت الآمال كبيرة على النموذج الليبرالي أو النيوليبرالي، والأسواق الحرّة، والاستثمار الخارجي، وإطلاق القطاع الخاص لإخراج العراق من التدهور إلى الرأسمالية الكفؤة، إلا أن ذلك لم يحصل. حتى النمو بعد الاحتلال لم يكن باهراً، إذا قارناه بنمو الدول بعد انتهاء الحروب. بين عامي 2003 و2017 نما الدخل الفردي من حوالى 900 دولار (بأسعار 2005 - أي كان العراقيون في موقعهم نفسه في عام 1970!) إلى حوالى 2000 دولار (أي ما كانوا عليه في عام 1979). أمّا الأسوأ، فكان حصول نوع من التزاوج بين النيوليبرالية والريعية في نموذج أطلق عليه البعض النموذج النيوليبرالي-الريعي. وتعزّز كون العراق دولة نفطية وريعية. إذ في عام 2015 كانت واردات النفط تشكّل 50% من الناتج و98% من الصادرات و90% من واردات الدولة!
بالإضافة إلى زواج الريع مع النيوليبرالية، التقى الريع مع النظام التحاصصي، ولكن هذه المرة حدث زواج «مصنوع في الجنة». فأفضل وعاء اقتصادي لأي نظام تحاصصي بين فئات إثنية أو دينية أو حتى سياسية صرفة هي وجود مصدر للريع، وما هو أفضل من النفط كمصدر له؟
إن الاقتصاد المبني على استخراج الرأسمال الطبيعي من الأرض، من السهل تحويله إلى حصص بين الطوائف والإثنيات، بينما الاقتصاد المبني على الإنتاج والعمل وراءه طبقة رأسمالية وطبقة عاملة تتقاسمانه، ومن الصعب تحويل موارده للتقاسم بين فئات غير اقتصادية. وبالتالي كان النفط بعد عام 2003 محور تجاذب بين القوى السياسية والإثنيات والمذاهب، إذ رأى الجميع آنذاك أن النفط كان بمثابة غنيمة حرب.
أفضل وعاء اقتصادي لأي نظام تحاصصي بين فئات إثنية أو دينية أو سياسية هي وجود مصدر للريع، وما هو أفضل من النفط كمصدر له؟


من هنا، فإن تحالف «سائرون» يُشكّل بُعداً جديداً في السياسة العراقية لم تشهده منذ عقود، ليس لكونه تحالفاً انتخابياً فقط بين «الليبراليين والشيوعيين والصدريين» استطاع تصدّر الانتخابات، لكن لكونه مبنياً على ثلاثة أمور: الأول، الحراك المدني الذي شاركت فيه القوى المُشكّلة للتحالف منذ عام 2010. الثاني، أن التحالف أعدّ برنامجاً مشتركاً يدعو إلى إنهاء النظام التحاصصي الطائفي الذي أرساه الأميركيون بعد عام 2003. والثالث، كما قال الأمين العام للحزب الشيوعي: «إن القاعدة الاجتماعية لليسار وللصدريين قريبة من بعضها البعض». طبعاً الأمر في العراق مُعقّد جدّاً، وعلى عكس سنوات من المذهبية والانقسامات وعدم الثقة بين فئات الشعب، يتطلّب أكثر من فوز انتخابي، خصوصاً أن هذا الفوز يتطلّب تحالفات مع قوى أخرى لتشكيل الحكومة، ما قد يؤدّي إلى توترات داخل التحالف نفسه، وقد تنتهي الأمور قبل أن تبدأ. لكن الخطوة الأولى حصلت.
بالأمس، لم تكن هذه الخطوة الأولى متوقّعة لأن الأنظمة المذهبية التحاصصية صعبة العكس، وقد تكون حتى غير قابلة للعكس (irreversible)، فمتى بدأ التحاصص فهو يخلق ديناميكيات ذاتية يصعب القضاء عليها. لكن المفارقة أيضاً هو وجود النفط، فكما هو محفّز للتوزيع التحاصصي، قد يتحوّل اليوم إلى حافز للعراقيين لأن يتخلّوا عن توزيعه بغنائمية صرفة، ويتحوّلوا إلى بناء الدولة الوطنية لاستثماره ولمراكمة الرأسمال وتحقيق النمو الاقتصادي. في هذا الإطار، إن إقرار قانون النفط الجديد قد يكون الأرضية للبدء بعملية التنمية إذا ما تم قيام حكومة وطنية عراقية. وهذا الأمر أصبح حيوياً جدّاً، إذ إن إطلاق التنمية الاقتصادية الفعلية، عبر القضاء على الريعية والتخلّي عن السياسات النيوليبرالية، سيسمح للعراق باستعادة واستخدام قواه الكامنة العلمية والبشرية والطبيعية، وصولاً إلى تحقيق الظروف المادية لتحقيق تطلعات الشعب العراقي بعد أربعة عقود ضائعة. فهذا ما طمح الشيوعيون العراقيون إليه دوماً، حتى في أحلك الظروف عند رفعهم شعار: وطن حرّ وشعب سعيد.