في الخامس والعشرين من أيار عام 1967 وعلى «الملعب الوطني» في مدينة لشبونة، أحرز فريق «سيلتيك» الاسكتلندي بطولة كأس أبطال أوروبا (كأس دوري الأبطال الأوروبي بتسميته الجديدة) بفوزه على فريق «إنتر ميلانو»، مُحقّقاً بذلك واحدة من أكبر المفاجآت في عالم كرة القدم في حينه. شكّل هذا الانتصار علامة فارقة في العقود التي تلت، والتي شهدت تغييرات كبيرة في لعبة كرة القدم على صعيد الأندية، وخصوصاً في ما يتعلّق بتحرير أسواق اللاعبين الأجانب وانخفاض أهمية اللاعب المحلي في الفرق الأوروبية. فعلى الرغم من أن الفريقين، «سيلتيك» و«إنتر»، خاضا المباراة بتشكيلتين من اللاعبين المحليين، إلا أن لاعبي الفريق الأول المحليين كانوا مميّزين، فكلّهم، باستثناء لاعب واحد، ولدوا على بعد ما لا يزيد على 15 كيلومتراً عن «سيلتيك بارك» ملعب الفريق. واستحق الفريق لقب أسود لشبونة لأنه فاز باللقب، ممثلاً هوية اجتماعية شديدة الخصوصية، ضد فريق من أقوى فرق أوروبا في حينه.
مورو ــ كوبا

تأسّس فريق سيلتيك في غلاسغو عام 1887 على يد القس الكاثوليكي أندرو كيرينز، في إطار المبادرات الرامية إلى رفع الفقر عن المهاجرين الإيرلنديين الكاثوليك في غرب اسكتلندا. ويمثل الفريق إلى اليوم، كما يقول جوزيف برادلي في بحثه «سيلتيك، الإثنية الإيرلندية والمجتمع الاسكتلندي»، علامة فارقة تمنع الدمج الكلي للمهاجرين الإيرلنديين في المجتمع الاسكتلندي البريطاني، لأنه لا يزال يعبّر عن فرادة هويتهم كجماعة.

من الرياضة إلى الصناعة
يتحدّث أنثوني كينغ، في كتابه «الطقوس الأوروبية: كرة القدم في أوروبا الجديدة»، عن الأبعاد المحلية لكرة القدم في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة. ويشدّد على الطابع «الدولي» للمباريات التي كانت تجرى على الساحة القارية، وخصوصاً بعد اعتماد كأس أبطال أوروبا، البطولة التي تحدّد الأفضل في القارة. ويربط كينغ بين كرة القدم، كطقس اجتماعي يستعرض التغييرات الاجتماعية في أوروبا، وبين نشوء الاتحاد الأوروبي وتطوّر حال الوحدة الاقتصادية الأوروبية. فبين توقيع اتفاقية روما عام 1957 ـــ التي شكّلت بداية الاتحاد الجمركي بين الدول الأوروبية، وما تلاها من بطء في النمو الاقتصادي على أثر سقوط النموذج الفوردي في نهاية الستينيات ـــ وبداية فترة رفع القيود في منتصف الثمانينيات، شهدت لعبة كرة القدم في أوروبا جموداً في شكلها وتنظيمها. ويشرح كينغ أنه مع بداية التسعينيات، حيث بدأت تظهر مفاعيل رفع القيود على اقتصادات القارة ومجتمعاتها، أصبحت المدن الأوروبية تولي اهتماماً أكثر لاجتذاب رأس المال الدولي من تأمين الرفاه الاجتماعي، خلافاً للأولوية التي سادت في المرحلة الكينزية. وفي سياق رؤيته لكرة القدم كطقس اجتماعي، يرى كينغ أن تطوّرها يعبّر عمّا اختلج المجتمعات الأوروبية من تغيير في الهوية والميل نحو الكيانات العابرة للوطنيات.

2.5 مليار دولار

هو مجموع الدخل الذي حقّقه الاتحاد الأوروبي لكرة القدم من بطولة كأس دوري أبطال أوروبا في موسم 2016/2017 بما في ذلك حقوق النقل التلفزيوني والرعاية والضيافة وبيع التذاكر


ولكن كيف تتأثر كرة القدم بالتغييرات البنيوية للاقتصاد؟ للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من تحديد ماهية كرة القدم الأوروبية: هل هي مجرد رياضة، أم أنها تحوّلت إلى صناعة؟
يشرح جون بيتش في كتابه «عمل تجارة إدارة الرياضة» مراحل تحوّل الألعاب الرياضية إلى «عمل تجاري كبير» أو إلى صناعة. فبداية أي رياضة تكون مرحلة التأسيس، تليها مرحلة تدوين القوانين، أي توحيد قوانين اللعبة لكل ممارسيها. والمرحلة التي تليها هي مرحلة المطابقة، والتي تشمل تطبيق القوانين على كل الكيانات الحاكمة والمنظّمة للمسابقات. فتتبعها مرحلة الاحتراف، حيث يتلقّى الرياضيون بدلاً مادّياً عن مجهودهم أو وقتهم الضائع، فيصبحون قادرين على اعتبار اللعبة عملهم الدائم. ثم تأتي مرحلة ما بعد الاحتراف، وتليها مرحلة التسويق، التي تتحوّل خلالها الرياضة/اللعبة إلى شكل من أشكال العمل التجاري من خلال رؤية الكيانات الاقتصادية الخارجية لفرص التسويق من خلال اللعبة. تتميّز هذه المرحلة بعدم قدرة إداريّي النوادي والاتحادات على إدارة المدخول المتنامي، الأمر الذي يؤدّي إلى مشاكل مالية. وآخر المراحل هي مرحلة ما بعد التسويق، التي تشهد نمواً للدخل من خارج اللعبة نفسها، حيث يصبح الدخل الأكبر من مصادر خارجية.

«مبدأ المجهول»: الاستثمار في التوتّر والدراما
هكذا إذاً تتحوّل اللعبة الرياضية إلى صناعة. وقد تحوّلت كرة القدم إلى صناعة فعلاً. ففي كتاب «إدارة كرة القدم: وجهة نظر دولية»، يؤكّد شون هاميل أن كرة القدم أصبحت صناعة كبيرة، دخلت مرحلة التسويق في أوروبا. ودخلت بعض بطولات القارة مرحلة ما بعد التسويق، وبدأت تسعى معظم أنديتها إلى البحث عن أسواق خارج أسواقها المحلّية المشبّعة لاجتذاب المزيد من الاستثمارات. ويعيد هاميل جاذبية كرة القدم لرأس المال إلى «مبدأ المجهول»، الذي تثيره اللعبة عند المتابعين، وهذا يؤدّي إلى التوتر والدراما. وكل هذا يولّد عند المشجّعين حالة من الارتباط مع نجاح (أو فشل) الفريق، فيصبح الفوز فوزهم وكذلك الخسارة. ويصبح الإنتماء إلى النادي طريقة للتعبير عن انتماء سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، علماً بأن مشجّعي كرة القدم أوفياء للأندية التي يشجّعونها (العلامات التجارية). وعندما نأخذ بالاعتبار أن كرة القدم صناعة يتحكّم بها المنتَج، أي نتائج الفريق على الملعب، يصبح المشجّع جزءاً من صناعة هذا المنتج. فمثلاً مشاهدة المباريات على التلفاز أو في الملعب، وشراء البضائع المدموغة بعلامات النادي وغيرها من الاستهلاك الرياضي تساعد على تحسين المنتَج، بسبب زيادة الاستثمار في الفريق عبر ضخ المزيد من الدخل للنادي.
ويشرح كورنل ساندفوس، في كتاب «مباراة من شوطين»، كيف انتقل هذا الولاء من محلي إلى معولم. فتجربة أندية كرة القدم، التي وصلت إلى مرحلة التسويق، في التربّح من تسويق البضائع المرتبطة بعلامتها التجارية دفع الرعاة إلى محاولة توسيع قاعدة مشجّعي هذه الفرق، وخصوصاً عند الربط بين أهمية الاستهلاك الرأسمالي وعملية عولمة أي منتج، عبر استعمال آليات الرأسمالية التصنيعية. ويضيف أن التبادل الرأسمالي ومراكمة الأرباح هما العاملان الأساسيان اللذان يدفعان باتجاه عولمة كرة القدم اليوم. فالإنتماء إلى قاعدة جماهير فريق معيّن هو اليوم فعل تواصل من خلال الاستهلاك، وما يعزّز عولمة القواعد الجماهيرية للفرق هو التلفزيون.

كرة القدم والرعاية والنقل التلفزيوني
من أهم الأمثلة التي يمكن ضربها عن علاقة التلفزيون بعولمة كرة القدم، بطولة دوري أبطال أوروبا. ففي كتابه، «كرة القدم والتسويق: وجهة نظر عالمية»، يتحدّث ميشال ديسبورديه عن الدور الأساسي للنقل التلفزيوني في إعادة تنظيم بطولة «كأس أبطال أوروبا» وتحويلها إلى «دوري أبطال أوروبا». ويسرد أن ازدياد مداخيل الأندية الأوروبية من النقل التلفزيوني لمباريات بطولة «كأس الأبطال» دفع الاتحاد الأوروبي لكرة القدم إلى التدخل في تحصيل الدخل لرفع فعاليته، بعدما كانت الأندية تتولّى توزيع حقوق النقل بنفسها. واحتكر الاتحاد الأوروبي حقوق توزيع النقل التلفزيوني للبطولة، على أن يعيد توزيع المداخيل على الأندية عند انتهاء الموسم. هذا الأمر جعل العلاقة بين المحطات والبطولة ذات طابع رسمي، ما مكّن المحطات من ممارسة الضغط على منظّمي البطولة لتحويلها إلى شكل أكثر قابلية للتسويق. فالبطولة كانت على شكل مباريات إقصاء مباشر من البداية إلى النهاية، وكانت تحمل مخاطر إقصاء الفرق الأكثر جماهيرية من بداية البطولة، فمن الطبيعي أن يضرّ ذلك بمصالح المحطّات.
حوّل الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، بالشراكة مع شركة TEAM، البطولة إلى «دوري الأبطال» التي تتألّف من مرحلتين: الأولى، مرحلة مجموعات يُلعب فيها دوريّ مصغّر. والثانية، مباريات الإقصاء المباشر. بهذه الطريقة ضمنت المحطّات التلفزيونية بقاء الفرق الأكثر شعبية في فعاليات البطولة حتى مراحل متقدمة منها، على أقل تقدير، ما يزيد مداخيل المحطّات من نقل المباريات. وأساس هذه الشراكة بين الاتحاد وTEAM هو مثلّث أضلاعه: كرة القدم والرعاية ومحطّات النقل التلفزيوني. وأصبحت TEAM تبحث عن كيفية تسويق منتج «دوري الأبطال» في أسواق جديدة تتيح زيادة المداخيل واجتذاب استثمارات جديدة، سواء عبر الرعاية أو عبر النقل التلفزيوني.

كلّما أتقنت الأندية الكبرى آليّات «السوق» تقلّصت المفاجآت التي تضفي عنصراً رومانسياً على اللعبة


هذا الواقع الجديد، كما يذكر ديسبورديه، فتح أعين الأندية الكبرى في أوروبا على قدرتها على الضغط على الاتحادين الدولي والأوروبي، فشكّلت مجموعة الـG14، التي ضمّت أكبر الأندية الأوروبية من إيطاليا وإنكلترا وإسبانيا وهولندا والبرتغال وفرنسا، لتتفاوض على تحسين شروط مشاركتها في البطولات القارية والدولية. فأصبحت مداخيل النقل التلفزيوني تتوزّع على النوادي المشاركة في شكل يتناسب مع القاعدة الجماهيرية لكل ناد، ما تسبب بخلل في توزيع مداخيل حقوق النقل والرعاية على الأندية المشاركة، كل بحسب جماهيرية علامته التجارية.
بطبيعة الحال، هذا الخلل في توزيع المداخيل هو الذي أنتج الفارق الضخم في الموارد بين فرق أوروبا الكبرى (من حيث القاعدة الجماهيرية، أي قاعدة المستهلكين) وبين الفرق الصغيرة التي كانت تتمكّن في ما مضى من المنافسة، ما تسبّب بانخفاض مستوى التنافسية الرياضية أمام الفرق الأكبر في أوروبا. وللمفارقة، يمكن ضرب مثل نهائي كأس أبطال أوروبا عام 1989، الذي تواجه فيه فريقا «ميلان» و«ستيوا بوخاريست»، حيث كان الفريق الروماني، الفائز بالبطولة قبل ثلاثة أعوام فقط على «برشلونة»، المفضّل للفوز بالمباراة، على الرغم من صغر قاعدته الجماهيرية مقارنة بقاعدة فريق ميلان.

المشاهد المستهلك
حين سُئل رئيس نادي نابولي أوريليو دي لاورنتيس، منذ أسبوعين، عن رأيه في التحكيم في مباراتي نصف نهائي البطولة، أجاب بأن المباراة بين «ليفربول» و«ريال مدريد»، ممثّليْ أكثر بطولتين محلّييتن متابعة عالمياً، ستجلب مشاهدين على صعيد عالمي أكثر من مباراة بين ممثليْن لإيطاليا وألمانيا. قد لا تكون الأمور بهذه السوداوية التي أبداها دي لاورنتيس، لكن يوم السبت القادم حين نشاهد نهائي بطولة دوري الأبطال، فإن ما سنشاهده فعلاً هو المرحلة النهائية من منتَج بين علامتين تجاريتين استهلكنا منتجاتهما (ومنتجات أخرى لغيرهما من الأندية/العلامات التجارية) طوال الموسم. ولا يمكن اليوم، في زمن كرة قدم مرحلة ما بعد التسويق، العودة إلى زمن يفوز فيه فريق يمثّل مجموعة قيم محلّية بلاعبين محلّيين، مثل «سيلتيك»، أو فخر قومي كـ«ستيوا بوخاريست»، على عملاق كروي، بكل ما للكلمة من معنى على المستويين المالي والشعبي، كـ«إنتر ميلانو» في 1967 أو «برشلونة» في 1986. وعلينا كمستهلكين أن نعي أننا أمام منتَجات تتحكّم فيها براعة إدرايي الأندية في إدارة واجتذاب رأس المال المتدفّق من أسواق محلّية ومعولمة، وأن هوامش المفاجآت التي كانت تضفي عنصراً رومانسياً على اللعبة تضيق كلّما أتقنت الأندية الكبرى آليات الصناعة أكثر.