يدخل الزبائن إلى متجر«أمازون» الجديد، يمسحون هواتفهم، يأخذون ما يريدون من الرفوف ويخرجون. لا يوجد صناديق للدفع، بل عوضاً عن ذلك يحمّلون تطبيقاً على هواتفهم، وبعدها تستطيع الآلات في المتجر، عبر أجهزة استشعار، معرفة الزبائن والسلع التي يأخذونها عن الرفوف. وبعد دقيقتين من المغادرة يتلقّى الزبائن إيصالاً بالسلع المشتراة على هواتفهم. يعكس هذا التطوّر في البيع الآلي أشكالاً أخرى من الأتمتة: في المكاتب، السيارات من دون سائق، الرعاية الاجتماعية واتخاذ القرارات.

45%

هي نسبة الأنشطة التي يقوم بها العمّال ويمكن استبدالها بالتشغيل الآلي، وفق دراسة لشركة «ماكنزي»، فيما 5% من الوظائف لا يمكن للأتمتة أن تحل مكانها

هل يعني ذلك أنه قريباً سيتم استبدال البشر كلياً بآلات التعلّم الذكي وخوارزمياته؟
تفيد التوقّعات حول الوظائف، التي ستؤول إلى الروبوتات خلال العقد المقبل، بأن عددها سيكون هائلاً، ليس فقط في العمل اليدوي في المعامل، بل أيضاً في الوظائف ذات الياقات البيضاء كالصحافة، والمصارف وحتى الاقتصاديين!
يعتقد التكنو-مستقبليون أن الروبوتات ستستبدل البشر قريباً، ولكني أعتقد أنهم يركضون قبل أن يستطيعوا السير – أو كي أكون أكثر تحديدًا، أعتقد أنه، حتى الآن، بالكاد تستطيع الروبوتات السير واللحاق مقارنة بالبشر. هذه هي متناقضة ««مورافيك» التي تقول إن «من السهل تمكين الكومبيوترات من إظهار أداء يوازي مستوى البالغين في الامتحانات أو الألعاب، ولكن من الصعب أو حتى المستحيل منحها مهارات طفل بعمر السنة بما يخصّ الإدراك والحركة». لذلك، يمكن للخوارزميات التصويت ما إذا يجب الاستثمار في المصارف، ولكن لا يمكن للروبوتات ضرب كرة التنس، ناهيك عن هزيمة لاعب محترف. بالفعل، يتّجه تطوّر الروبوتات أكثر نحو الروبوتات الزميلة في العمل (co-bots)، التي هي امتداد للعامل في المعامل والمستشفيات والرعاية الاجتماعية، من أجل التشخيص مثلاً، وهذا لا يحلّ مكان العامل في شكل مباشر.
تجربة فكرية على سندويش هوت دوغ
يدور الجدل الاقتصادي السائد حول ما إذا كانت التكنولوجيا ستخلق وظائف جديدة أم ستدمّرها. تقول الحِجّة إن التكنولوجيا الجديدة قد تستغني عن وظائف معيّنة (النسّاجين اليدويين في القرن التاسع عشر) ولكن تخلق أخرى جديدة (معامل النسيج).
يقدّم بول كروغمان تجربة فكرية في هذا المجال، تقول: تخيّل أن لدينا سلعتين، النقانق والخبز، يتم جمعهما ليصنعا سندويش الهوت دوغ. ولدينا 120 مليون عامل مقسمين بتساوٍ بين الصناعتين: 60 مليوناً يصنعون النقانق، و60 مليوناً يصنعون الخبز، ويأخذ كلاهما يومين لصناعة وحدة إنتاج.
لنفترض الآن وجود تكنولوجيا تضاعف إنتاجية الأفران، فنحتاج إلى عدد أقل من العمّال لصناعة الخبز، ولكن ستعني زيادة الإنتاجية أن المستهلكين سيحصلون على هوت دوغ أكثر بنسبة 33%. في النهاية، سيحتوي الاقتصاد على 40 مليون عامل يصنعون الخبز و80 مليوناً يصنعون النقانق. ويمكن أن تؤدي المرحلة الانتقالية إلى البطالة، خصوصاً إذا كانت المهارات لدى العمال محددة جداً بصناعة الخبز. ولكن على المدى الطويل، سيعيد التغيّر النسبي في الإنتاجية توزيع الوظائف لا تدميرها.
تشكّل قصة صرافي البنوك ضد الصرّاف الآلي مثالاً آخر على ابتكار تكنولوجي يستبدل كلياً العمل البشري في مهمة محدّدة. هل أدى ذلك إلى انخفاض كبير في عدد صرّافي البنوك؟ بين سبعينيات القرن الماضي (عند إدخال أول صرّاف آلي في الولايات المتحدة) وعام 2010 تضاعف عدد صرّافي البنوك. أدى تقليص عدد الصرافين في كل فرع إلى تخفيض كلفة تشغيل فروع المصارف، ما دفعها إلى توسيع شبكاتها، كما تطوّر دورها تدريجاً من تدبير الأموال إلى العمليات المصرفية المتكاملة المبنية على العلاقات.

تفاؤل الاقتصاديين
هذه هي النظرة المتفائلة. ولكن حتى في هذه الحالة، كما لاحظ ماركس بما يخصّ صعود الآلات في القرن التاسع عشر، لا تكون خسارة الوظائف في قطاع واستحداثها في آخر عملية سلسة. يقول ماركس في «Grundrisse» الحقائق التي يتم تشويهها عبر تفاؤل الاقتصاديين، هي أنه «عندما يتم إخراج العمال من ورش العمل بواسطة الآلات، فإنه يتم رميهم في سوق العمل.

المصدر: مستقبل العمل 2018 – منظّمة العمل الدولية

إن وجودهم في سوق العمل يزيد من عدد قوى العمل التي هي تحت تصرف الاستغلال الرأسمالي ... إن تأثير الآلات، التي تُطرح محل الطبقة العاملة، هو، على العكس، أكثر الآفات رعبًا»، في الوقت الحاضر، سأقول الآتي: إن العمال الذين تم إقصاؤهم عن العمل في فرع معيّن من الصناعة، يمكنهم دون شك البحث عن عمل في فرع آخر... فحتى لو وجدوا عملاً، فإنهم سيواجهون أفقاً بائساً! إن هذه الشياطين المسكينة، المشلولة بسبب تقسيم العمل، لا يساوون إلا القليل خارج صنعتهم القديمة، بحيث لن يتم قبولهم في أي صناعات، باستثناء عدد قليل من الفروع، وبالتالي يفيض فيها عرض العمل وتتدنّى فيها الأجور. علاوة على ذلك، يجتذب كل فرع من الصناعة سنوياً مجموعة جديدة من الرجال، الذين يوفّرون خزّاناً لملء الوظائف الشاغرة، ويمثلون عرضاً للعمل لتوسّع الصناعات. حالما تحرّر الآلات جزءاً من العمال العاملين في فرع معيّن من الصناعة، يتم تحويل رجال الاحتياط أيضاً إلى قنوات توظيف جديدة، ويتم استيعابهم في فروع أخرى؛ في هذه الأثناء، سيموت جوعاً ويهلك معظم الضحايا الأصليين خلال الفترة الانتقالية».

تناقض الرأسمالية العظيم
وبعدها هناك ربحية التكنولوجيا. لن يتم استخدام الروبوتات إلا إذا تمكّنت من تحقيق أرباح أكثر لمالكي التطبيقات الربوبوتية ومستثمريها. ولكن روبوتات أكثر وعملاً بشرياً أقل نسبياً سيعني أنه سيتم خلق قيمة نسبية أقل لكل وحدة رأسمال مستثمرة، بسبب قانون ماركس للقيمة، إذ إننا نعرف أن القيمة (المدرجة في بيع الإنتاج من أجل الربح) تخلق فقط من قبل قوة العمل البشرية. وإذا تدنّت هذه الأخيرة نسبة إلى وسائل الإنتاج المستخدمة، سنكون أمام اتجاه لتدني الربحية. لذا، فإن توسّع الروبوتات والذكاء الاصطناعي سيزيد من احتمال وحدّية أزمات الربحية، فستزيد حدّية هبوط الإنتاج الرأسمالي كلما ازداد استبدال العمل بالآلات. هذا هو تناقض الرأسمالية العظيم: زيادة إنتاجية العمل من خلال الآلات تقلّص من ربحية رأس المال!
ينفي الاقتصاد السائد قانون القيمة أو يتجاهله. في عام 1898، ومن أجل دحض قانون ماركس للقيمة، قدّم الاقتصادي النيو-ريكاردي، فلاديمير ديميتريف، اقتصاداً مفترضاً حيث تقوم الآلات (الروبوتات) بكل شيء من دون الحاجة إلى العمل البشري. حاجج أنه سيكون هناك فائض هائل يتم إنتاجه من دون عمل، لذلك أخطأ ماركس بقانون القيمة. ولكن اختبار ديميتريف ليس ذات صلة، إذ إنه وغيره من الاقتصاديين السائدين لا يفهمون القيمة في نمط الإنتاج الرأسمالي. إن القيمة الكامنة في السلعة المعروضة للبيع هي ذات وجهين: قيمة الاستخدام الملموسة في السلعة أو الخدمة المَبِيعة، ولكن هناك أيضاً قيمة التبادل في النقد والربح الذي يجب تحقيقه في البيع، والتي من دونها لا يكون الإنتاج رأسمالياً. وحدها قوة العمل تخلق قيمة التبادل. لا تخلق الآلات قيمة (ربح) من دون أن يشغّل البشر الآلات. بالفعل، اقتصاد ديميتريف المبني حصرياً على الآلات لن يكون رأسمالياً لأنه لن يكون هناك ربح للرأسماليين.
علينا أن نبني الوحدة في العمل عبر تخفيض ساعات العمل وتوسيع السلع والخدمات العامة المجانية للجميع


وهذا هو تناقض الرأسمالية العظيم. فكلما استبدلت الآلات قوة العمل البشرية، في ظل الرأسمالية، ستنخفض الربحية حتى لو ارتفعت إنتاجية العمل (يتم إنتاج المزيد من الأشياء والخدمات). وسيعطّل انخفاض الربحية دورياً إنتاج الرأسماليين، لأنهم يستخدمون العمل والآلات فقط من أجل تحقيق الأرباح. لذا ستزيد حدّية الأزمات قبل أن نصل إلى عالم ديميتريف الروبوتي الافتراضي.

العمل الضروري اجتماعياً
لكن ما العمل عند خسارة الوظائف لمصلحة الروبوتات؟
يتكلّم بعض الاقتصاديين الليبراليين عن «ضريبة روبوت». ولكنها ستتسبّب بتباطؤ الأتمتة وهي بالكاد خطوة تقدمية للتخفيف من الكدّ.
وتستمرّ فكرة الدخل الأساسي الشامل باجتذاب الاقتصاديين اليساريين ومن هم في التيار السائد. ويسوّق عدد من الاقتصاديين النيوليبراليين لاقتراح الدخل الأساسي الشامل بغرض استبدال دولة الرعاية، التي تؤمن الصحة والتعليم مجاناً والراتب التقاعدي اللائق، كما يتم اقتراحه من أجل إبقاء الأجور منخفضة. ولكن أي مستوى لائق لدخل أساسي شامل سيكون ذات كلفة عالية لن تتحمّلها الرأسمالية، وحتى لو نجح العمّال من خلال نضالهم في انتزاع هذا الدخل، فإنه لن يحلّ مسألة من يمتلك الروبوتات ووسائل الإنتاج في شكل عام.
برأيي، هناك بديل أفضل، ألا وهو الخدمات الأساسية الشاملة، أي ما يسمّى الخدمات والمنافع العامة، المجانية عند الاستخدام. فالمجتمع الفائق الوفرة هو حيث تُسدّ حاجاتنا من دون كدّ أو استغلال، أي المجتمع الاشتراكي. ولكن الانتقال إلى هذا المجتمع يمكن أن يبدأ بتكريس العمل الضروري اجتماعياً لإنتاج الحاجات الاجتماعية الأساسية كالتعليم، الصحة، السكن، النقل والمواد الغذائية والمعدّات الأساسية.
لماذا علينا استخدام الموارد لمنح الجميع دخلاً أساسياً من أجل شراء هذه الحاجات الاجتماعية؟ لماذا لا نجعلها مجانية عند الاستخدام، بدل أن نفصل من لا يعمل عن أولئك الذين يعملون من خلال «مكرمات» على شكل دخل؟ علينا أن نبني الوحدة في العمل عبر تخفيض ساعات العمل وتوسيع السلع والخدمات العامة (المجانية عند الاستخدام) للجميع.
بالطبع، سيتطلّب ذلك من مالكي وسائل الإنتاج والمتحكّمين فيها أن يستخدموها للحاجات الاجتماعية وليس للأرباح التي تعود للقلّة. حينها، ستكون الروبوتات والذكاء الاصطناعي جزءاً من التقدم التكنولوجي الذي من شأنه أن يجعل مجتمع الوفرة الفائقة ممكناً.
ترجمة نبيل عبدو
نُشر على Michael Robert›s blog