زيغمونت باومان، السوسيولوجي البولندي، الذي توفي في كانون الأول الماضي، كان مفكراً اشتراكياً، أعتقد أن المجتمع «الفاضل» هو الذي لا يكتفي بما لديه، بل يطمح دوماً نحو بنية أفضل وأكثر اتساعاً للجميع. لم يستسلم لقوّة التفاؤل الساذج الذي يعطّل العقول، كما أنه لم يستبدل الفكر النقدي والخلّاق بالمواقف الأخلاقية النرجسية، التي تتخذ هيئة الموقف السياسي (باعتبارها غير فعّالة أو لا ترجمة عملية لها). لم يسمح باومان لنفسه بطرح أي حلول لمشاكل البشرية، بل إن قراءة أعماله تعطي طابعاً متشائماً حيال إيجاد تلك الحلول. ولكن ذلك النوع من التشاؤم الضروري، الذي يعدّ شرطاً للتفكير الجدي، والذي يشكّل، رغم ظلامية الواقع، الأمل الوحيد لاختراع أدوات جديدة لإعادة تركيب العالم.
في كتاب تحت عنوان «A Chronicle of Crisis»، جمعت «Social Europe» مقالات زيغمونت باومان، المنشورة بين عامي 2011 و2017. يحلل فيها أزمة الرأسمالية في بنيتها الحالية، والمجتمعات المنبثقة عنها. يظهر تحليل باومان «كآبة» و«بؤس» العالم الذي نعيش فيه.

في اعتباره أن «خبر وفاة الرأسمالية» مبالغ فيه بحكم قدرتها الداخلية على إعادة إحياء ذاتها وإخضاع كل شيء حي أو ميت، مادي، ثقافي، فكري أو أيديولوجي لمنطقها. وقد تظهر شدة تشاؤم باومان في قوله «أعتقد أن أحد أكثر خصائص الرأسمالية محوريةً تنبثق عن كون مخيلة الاقتصاديين (ونقّاد الرأسمالية منهم) متخلّفة جداً عن قدرة الرأسمالية الابتكارية، واعتباطية مشاريعها، وقساوة وشدة عنف آليات تقدمها». يشارك باومان هذا الرأي مع «التفاقميين» (accelerationists)، الذين يعتقدون بأنه يمكن تشبيه الرأسمالية بـ«مخلوق فضائي يأتي من المستقبل»، دائماً ما نلتقي بها بين الماضي الذي تستهلكه والمستقبل الذي تأتي منه. بطبيعة الحال، يذهب هؤلاء أبعد من ذلك بقولهم إن علينا ترك عملية تفاقم الرأسمالية (أو نشارك فيها) حتى تنفجر، ويربط البعض منهم ذلك بانقراض البشرية (كما نعرفها مع التطور التكنولوجي) بدمج «المجال البيولوجي بالمجال التكنولوجي».
على أي حال، ليس هذا ما يذهب إليه باومان، فهو يكتفي في هذه المجموعة من المقالات بتحديث مقولة روزا لوكسمبورغ أن الرأسمالية كطائر الفينيكس تعود إلى الحياة من رمادها، تاركةً وراءها مساراً من الدمار. «يتسم تاريخ الرأسمالية بقبور الكائنات الحيّة التي امتصت روحها إلى حدّ الانتهاء». ولكن لوكسمبورغ حددت هذه الكائنات التي تنتظر مجيء الرأسمالية ــ التي يشبهها باومان بالكائن الطفيلي ــ على أنها تندرج تحت الاقتصادات ما قبل الرأسمالية، وهي محدودة الكم وفي تناقص مستمر إثر التوسع الامبريالي. ولذلك، بحكم المسار المنطقي لأفكارها، كان من المفهوم أن لا تتمكن لوكسمبورغ إلّا من توقع حدّ ما تنهار عنده الرأسمالية، يتزامن مع انتهاء هذه «الأراضي العذراء».

خبر وفاة الرأسمالية
مبالغٌ فيه بحكم قدرتها
على إعادة إحياء ذاتها

ولكن ذلك لم يحدث، بل ما حدث هو أن الرأسمالية تعلّمت، بحسب باومان، وبنت قدرة جديدة، وهي خلق «الأراضي العذراء» بدل الالتزام بالكم الموجود. وذلك ما سمح بالتحول من «مجتمع إنتاجي» إلى «مجتمع استهلاكي»، ومن «لقاء رأس المال بالقوى العاملة» إلى «لقاء السلعة بالزبون» كمصدر أساسي لتحقيق فائض القيمة، ما يعني أن عملية الربح المتراكمة تحصل بشكل أساسي إثر التسليع التدريجي لمكوّنات الحياة، واستبدال الرغبات بالحاجات، وخلق رغبات وحاجات جديدة لم تكن موجودة مسبقاً.
كانت الفكرة المحورية، التي أتى بها باومان، هي مفهوم «الحداثة السائلة»، ليصف عالماً "غربياً" في تحول من بنى مجتمعية ومؤسساتية وثقافية صلبة منذ منتصف القرن العشرين إلى «نسبية» ما بعد ــ الحداثة. انتهى عهد الوظائف الثابتة والآمنة، والمؤسسات العامة القوية، والضمانات الاجتماعية التي كانت تستمر بغض النظر عن توجهات الحكومات. ويستوحي باومان هذا المفهوم من غرامشي وفكرة «العوارض المرضية التي تظهر عند خلو العرش» بين حكم ملكين. يشبّه باومان هذا العصر بالتزلج على طبقة رقيقة من الثلج، حيث إن العامل الوحيد الذي ينقذنا من الغرق هو السرعة. ويحدد باومان مرحلة الانتقال هذه بنقلة نوعية في بنية الرأسمالية من الانتاج إلى الاستهلاك.
في المجتمع الاستهلاكي، ليس ما يحدد القيمة الاجتماعية للشخص ما ينتجه بل ما يستهلكه، كما يقول الفيلسوف الاسكتلندي راي براسيير. فإذا لم يكن لديك القدرة على الاستهلاك، على شراء السلع، فـ«وجودك مفروغ منه»، أي إنك في عداد اللاموجود. ولذلك، في عهد «الحداثة السائلة» بات خيار المستهلك المحدد الفوقي للقيمة. ومن هنا يتساءل باومان، «هل يمكن لمفاهيم كالمساواة والديموقراطية وتقرير المصير أن تستمر في وقت يتم النظر فيه إلى المجتمع أقل وأقل على أنه نتيجة العمل المشترك والقيم المشتركة، وأكثر على أنه ليس إلّا حاوية منتجات وخدمات ليتم اقتطافها من قبل الأفراد؟»
يُظهر باومان أن إحدى نتائج «الحداثة السائلة»، وما يأتي معها من تبعات، تكمن في أن كل جيل يحتوي مجموعات من المهمّشين، ضحايا التحوّل في طبيعة وشروط الحياة، ولكن اليوم، ولأول مرة، يتم تهميش جيل بأكمله، لن تؤمّن له الشروط بتخطّي ما حققه الجيل السابق من أمان واستقرار. جيل كامل قد لقّن قوانين العالم الذي عاش فيه أهله، عالم يبدأ فيه الأولاد من حيث وصلوا أهاليهم. ولكن هذه القوانين لا تتماشى مع عالم الحداثة السائلة. لم يخبر أحد هؤلاء المتخرجين الجدد بأنهم ينطلقون من دون ضمانات نحو عالم لا يرحّب بهم، معاد لهم في كل جوانب الحياة.
هذه ليست إلّا زاوية ممّا يحتويه كتاب «A Chronicle of Crisis» من فكر باومان، ولكنّها قد تشكّل البنى التحتية التي يعمل في إطارها: رأسمالية استهلاكية، حداثة سائلة، انفلات الرأسمالية من قدرتنا على احتوائها فكرياً وعملياً. من هنا ينطلق باومان ليتكلّم عن مواضيع شتّى، من مدى قدرة الديموقراطية الاجتماعية على الاستمرار إلى أزمات أوروبا والمهاجرين، وفصل «القوّة عن السياسة»، إلى ظاهرة ترامب وكيف أمّنت النيوليبرالية الطريق لصعوده.