زِحام، قمامة، أصوات نفير السيارات المُنهكة، وجوه عابسة، وأخرى ضاحكة، أزقة قديمة تحمل داخلها طيات الزمن العريق، موظفون، عمّال، باعة جائلون بوجوه مليئة بالأمل، وجُدران محفور عليها تاريخ شعب.
إنها الأشياء التي تصاحبك في اللحظات الأولى لدخولك مخيمات الشتات الفلسطينية... هنا في بيروت، أو في عمان، أو في سوريا.
فكوني لاجئاً فلسطينياً يقطن في مخيم، أعلم جيداً معنى البؤس، الفقر، والمعيشة المحاصرة. وبتّ أعلم أيضاً أني محطّ اهتمام الكثيرين في بقاع الأرض. حتى فصائلنا الفلسطينية لم تتوقف طيلة السبعة وستين عاماً المنصرمة، أي منذ النكبة، عن شرح الوقائع التي أعيشها/ تعيشها مخيمات الشتات للعالم، لكن دائماً ما يجول في خاطري سؤال: لماذا لا يتحدثون عن النواحي الإيجابية لهذه الجغرافية الصغيرة؟!
نعم، فالمخيم الفلسطيني مجتمع مثل أي مجتمع كان، يحوي الفقر، الغنى، البؤس، الحزن، الفرح، الفشل والنجاح. فلم اختيار السلبي وإغفال الإيجابي؟
لذا أجد نفسي مدفوعاً لإلقاء الضوء على ما هو مفقود ذكره، على سبيل المثال: وجود الكثير من المبدعين داخل هذه الأزقة الضيقة، أزقة تلد مواهب يصلب عودها بالعيش الصعب في مكان مثل المخيم. فهناك من يرسم معاناته فناً، هناك من يصرخ ساخراً بمرارة عبر اللوحات الكاريكاتورية، ومنهم من جعل الموسيقى آلته الحربية في معركة الفلسطيني مع الزمن.
في المخيم، هناك أشرف مثلاً، فنان فلسطيني ولد في مخيم الرشيدية، ويقطن في مخيم برج البراجنة، تعلم الموسيقى منذ الصغر، غالباً ما تراه مجالساً خياله ويعزف العود، وكأنه يسرد ما حصل معه طوال النهار من خلال الألحان. يصغي إليه المستمعون، فيدمع احدهم ويبتسم آخر ويطرب ثالث.
جالسته إحدى المرات، سألته مستفسراً عن الوقت وكيف يقضيه هنا في المخيم، فقال: "أقضي أغلب أوقاتي في الحلم الذي حققته". تعجّبت! فردّ مبتسماً: "أقصد في الملتقى الثقافي "جفرا" الذي أنشأته من مالي الخاص، فهذا المكان يبعث الراحة في نفسي وأجد ذاتي فيه كما الكثير من الفنانين الفلسطينيين ممن مثّل هذا الملتقى بالنسبة لهم منزل الأحلام. صحيح "جفرا" هو البيت الذي يشعرني بالراحة والمساحة الشخصية الواسعة".
بتُّ فضولياً. قررت زيارة هذا المكان الذي يقع في مخيم برج البراجنة. وهكذا كان. عند دخولي للمرة الأولى، دخلت ببطء على أعتاب شعر درويش الثوري، بتُّ أتلمس المكان، أنظر حولي وأبتسم، وما أجمله من مكان قد تمركز بين الأزقة والثورة. قبالتي هناك رأيت رساماً يرسم بطريقة تغزو العقل والذاكرة، وآخر يقرأ كتاباً مع نفسه، وأشرف كعادته يعزف العود طائراً في عالمه.
الفنانون الفلسطينيون في الشتات، تجاوزوا جميع العقبات في محاولة للوصول الى إبداعهم: تجاوزوا المعيشة الصعبة، القيود، حصارهم هنا في هذه البقعة، حرمانهم من ممارسة ما فطرهم الله عليه من مواهب. محرومون من الأمن والأمان والاستقرار، ناهيك عن تهجيرهم منذ 67 عاماً. ومع ذلك، ها هم ينهضون بقاماتهم المتفائلة.
المخيم الفلسطيني يملك الكثير من الفنانين، الموهوبين، المبدعين والخامات الذهبية. والفنان في المخيم بات فناناً من دون كفيل أو رعاية، كزهرة برية بشوكها وألوانها الغريبة. زهرة لا رعتها الدولة المضيفة كما حصل في سوريا مثلاً، ولا حتى أمها منظمة التحرير الفلسطينية. المبدعون في المخيم يزهرون بقوة اليتم.
لا أريد أن أنتقد أو أهاجم قيادتنا الحكيمة، فقط أتمنى أن تتغير الصورة النمطية التي سئم الفلسطينيون الحديث عنها، فعندما أسال أحمد الذي يكتب الشعر ويدرس الموسيقى عن مشكلته يقول: "ولك فهمنا يا زلمة انو نحنا تحولنا من رمز الثورة لرمز الفقر والشفقة، بس والله في عنا شي كتير كبير، ولازم نوصلو لكل العالم، ونرفع راسنا بمخيمنا".
نعم ، هذا ما يتعطش اليه الفنان الفلسطيني خاصة واللاجئ عامة: فقط يريد أن يغيّر نمطية الفكرة العامة التي استُخلصت عن اللاجئ الفلسطيني في المخيم، تلك الصورة السلبية. لا يريد ان يُنظر اليه كمشكلة بل كإنسان يمتلك الموهبة والمثابرة، وصاحب حق وقضية.
اللاجئ الفلسطيني أيضاً، ليس من يشكو أو يطلب الاسترحام، فالفن والأدب من الأساليب النضالية التي استخدمها الفلسطيني، والسينما والمسرح، الشعر والقصة، الرسم والموسيقى، فالمخيم أكثر من مكان، إنه فكرة وإمكانية لا تنضب، المخيم قصة ابتدأت، ولم تنتهِ بعد، حان الوقت لندافع عن أنفسنا وأن يقول الناس حين يتحدثون عنا مستدركين "صحيح أنها مخيمات... ولكنها عامرة وبكامل خير الإنسانية".