حيفا من هنا بدأت

  • 0
  • ض
  • ض

كان باب بيتنا يطرق بقوة، كان أبي متمدّدا يدخّن الغليون على طرّاحة زرقاء مطرّزة بخيوطٍ ذهبيّة في طرف غرفة الجلوس. أذكّر بأن جدّتي قد لفظت آخر أنفاسها على تلك الطّراحة ولا يزال أبي يصفن صفنةً طويلة كلّما جلس عليها. كانت جدّتي حنونةً جدّا، نزورها كلّ صيف في بيتها في النّاصرة و في الأعياد والمناسبات، وكانت تزورنا في حيفا مرّة كل شهر فتحضر معها الكنافة والمكسّرات، وليلاً كانت تخبرنا قصصاً من طفولتها وتقبّلنا وتغطينا. كانت جدّتي فلاحةً عصاميّة لم تترك أرضها حين توفيّ زوجها وحتّى آخر أنفاسها، فتكَ المرض بها وهي تزرع وتحصد وتتفيّأ من ظلال الأرض موسماً تلو آخر، وقضت آخر لحظاتها توصينا بالأرض و بالدّار.. وكانت أمّي في ذاك الوقت من ذاك النّهار تغلي ابريقاً من الشّاي الأخضر، وتلاحقنا أنا وأختي بحثاً عن خصلات الشّاي التّي كنّا نخبئها لنغليها ونسكبها في فناجيننا البلاستيكيّة، مدّعيتَين أننا أميرتان بريطانيّتان في إحدى حفلات الشّاي اللندنيّة التّي كنّا نسمع عنها. كان الطّرق على الباب يتزايد بطريقةٍ جنونيّة، ما أيقظ والدي من صفنته الاعتيادية فنهض ليفتح الباب على عجل. كان أبو جلال المؤذّن وصديق والدي يكاد يبتلع عرق جبينه لهاثاً، وعبثاً يحاول التقاط أنفاسه، وقبل أن يتلفظ ببنت شفة، التقط والدي كتفه مغلقاً بيده الأخرى باب الدّار عليهما وهو ينظر إلينا مذهولتين بانزعاج. تحدّثا لدقيقةٍ أو لدقيقتين في الخارج وصوت أبي جلال المخنوق يتعالى حيناً ويخفت آخر، ثمّ دخل أبي وقالها مرّة واحدةً وهو ينظر إلى الأرض: "لقد أمهلونا حتّى الليل لنترك حيفا، سأرسلكم مع مجموعة من الأهالي غداً إلى الشّمال، و سأبقى أنا هنا إلى أن يفرجها الله". لم يكن كلام والدي قابلاً للنقاش، وبرغم أنّنا كنّا نعيش بالفعل الحصار الاسرائيليّ على حيفا لأكثر من شهر، لكنّ كلام أبي كان كالخنجر في صدر رجاءاتنا ، هرعت أنا و أختي إلى غرفة أخي اسماعيل، الّذي كان يكبرنا بالعمر قليلاً وأخبرناه بما حدث. احتدّ اسماعيل وتمتم بغضب "عملوها الكلاب، دخلوا حيفا "، وخرج من غرفته إلى غرفة الجلوس حيث والدي يسند رأسه إلى أحد جدران المنزل، وأمّي تبكي عند عباءته، وصرخ على مسمعهما :" مش ح تبقى لحالك يابا يا منفلّ سوا يا منموت سوا"، وخرج من البيت مسرعاً لا يردعه نداء أمّي واستصراخها". السّاعتّان اللاحقتان، كانتا الحكاية كلّها، دخلتُ غرفتي، وقفت في وسطها وهي تدور والعالم يدور من حولي، شنطةٌ صغيرةٌ كانت في يدي لم أظنّها كانت ستتّسع لكلّ لُعبي، كان عليّ الاختيار بينها وكنت اعلم أنّني سأختار بين ذكرياتي وأحلامي وطموحاتي، بين كلّ ما كنت عليه وما سأكونه يوماً، بين أوّل خطوةٍ وأول لعبةٍ وأوّل ضحكةٍ وأوّل دمعة، بين فستاني الزهريّ وفستان العيد الماضي الذّي اجتمعنا فيه في باحتنا، وقجّة العيديّة وصندوق القضامة وعلب هدايا عيد ميلادي، كان عليّ أن أختار بين حياتي وحياتي.. و كان عليّ أن أتخلّى عن حياتي.. في خضمّ ضجّة تقلّب الأفكار والمواجع، لحظةٌ لا أجيد سردها ولا أتقن صياغتها، كل خيوط السّرد التّي أمسكتها بين يدي يوماً فرطت، ضاعت، تبخرّت، كلّ تصوراتي عن يومٍ مظلمٍ يائس كانت في أن اكسر إحدى لُعبي أو شيئاً من كاسات أمي، أو أن أتلف بعضاً من أزهار الباحة فتغضب عليّ، كيف أمكن لطفلةٍ لم تبلغ السبع سنوات أن تعلم أنّ في الدّنيا شيئاً أكثر شرّاً من "أبو كيس"، الذّي كانت ترعبنا أمّهاتنا به، أن تحسب أن في العمر لحظات كفيلة بتدميره، كفيلةٌ بأن يتوقّف عندها، في تلك اللحظة كان أهالي الحيّ يحملون جثث الشباب والأطفال الذّين وقفوا في وجه الدّبابات الإسرائيليّة على حدود حيفا ورموها بالحجارة، فأردتهم بالرصّاص.. للحظة اختلطت مناجاة امّي بنداءات التّوحيد والتّهليل في الخارج، فهرعت إلى الباب وقلب الأمّ دليلها، وبعينين واسعتين لا ترمشان وفيهٍ مفتوح، استقبلت جسد أخي اسماعيل معفّراً بالدّم وبالدّمع وبالتّراب، لم أكن أستوعب أنّني قد مُنِحتُ بضع ساعاتٍ لأودّع بيتي.. وأخي، لم يكن شيءٌ ليجعلني أتحمّل ذلك سوى قسوة أبي في ذلك الموقف، بنفض الدّمع من عينيه وبانتشالنا من فوق جثة أخي، ثمّ بوضعه الأكياس والحقائب في أيدينا ودفعنا إلى الرّحيل، و كان في كلّ مرّةٍ يرفعنا فيها عن الأرض نسقط ثانيةً و ثالثةً وعاشرةً إلى أن خطف شباب الحيّ جسد أخي من حضن أمي ومضوا محتشدين لتشييعه ودفنه، أمسك أبي بأمّي من كتفها وهزّها محاولاً ايقاظها : "إسمعي، ما معناش وقت، لازم تفلي انت والبنات، ما بديش اخسركو انتو كمان". وقفنا على الباب نتهيّأ للرحيل ودموع أبي، كانت أعزّ من كلّ ما فقدت، نظرات أبي وهو يتأملنا كأنّه يختزن في قلبه صورنا للأبد، كانت تقتلني ألف مرّة، قبّلت أمّي جبينه وقبّل يديها ووجناتنا أنا وأختي ووقف على الباب ملوّحاً، مشيت والعالم يهوي في عينيّ أرفع رأسي للسماء، للصنوبر، للزيتون، لقرميد بيتنا، ولشبّاك المدرسة، للطرقات، وللبحر! لقد كان البحر في داخلي يقتلني، يُغرقني ثم يعيدني إلى الحياة في الرمق الأخير، ويغرقني من جديد، كانت جدّتي تموت مرة أخرى بل ألف مرّةٍ، وكانت قطعةٌ من السّماء فوق حيفا تهبط على الأرض رويداً رويداً مستعدةً لخنقنا، جميعاً.. صرخ والدي فقطع عصّارة الألم في داخلي، أقفل باب البيت وركض نحونا مسرعاً ثمّ وضع في عنقي سلسلةً ذهبيّة علّق فيها مفتاح الدّار وقال لي: " يمكن ما كون لمّا ترجعوا، بس ح ترجعوا" وحيفا.. من هنا بدأت. يُتبع..

  • للفنان الفلسطيني هاني عباس

    للفنان الفلسطيني هاني عباس

0 تعليق

التعليقات