كمن يفجّر رمانة من حزن

  • 0
  • ض
  • ض

كانت تتحدّث كمن يستمتع بسرد التفاصيل على نفسه، فيستعيد شيئاً من هناك: عن حبّها الأول حكت، وعن أول صفعة تلقاها وجهها الذي كما تقول كان قمراً مستديراً، وقبل أن تخبر السامع، الذي صادف مروره في توقيت بوحها اليومي، عن سبب تلك الصفعة، تذهب بعينيها بعيداً وتعود بصوت آخر. كأنها عادت إلى حيث شهدت أوّل رحيل وحملت من الذاكرة غضب اللحظات تلك ولفت بها حنجرة أعياها التدخين المتواصل. بغضب تنظر في عينيك، تخبرك كمن يقاتل، كيف حملت أخاها الأصغر ومشت به بعيداً، بعيداً عن دم والدها وعن زيتونة الدار. تخبرك، كمن يفجّر رمانة من حزن، أنّ صراخ الجيران لها طالبين أن ترافقهم وأخاها، ابن السنوات الخمس، كان يدفعها إلى الركض، ثم البكاء ثم الركض ثم النظر إلى الخلف، نحو البيت الذي غدا بعيداً بحجم نجمة، ثم الركض مجدداً والغياب. كانت تقول إنها ليست هي، وإنها بقيت هناك، تمسح عن غبار الدار دنس مرورهم، وتهدهد بحنين بالغ دم أبيها الحار كصفعة على خد، والمحفور في ذهنها كأنه حبّ أول. كان عليها ألّا تقرر، تقول. لو شئت التفكير لاتخاذ القرار، لكنت اليوم حاملة لسكين أبحث عن قاتلي في أزقة القدس، وكنت سأخبر أخي أن يحمل مثلي سكيناً. أن يطعن مثلي قاتله. لو أتاح لي صراخ الجيران أن أفكر لما كنت اليوم هنا، أنظر من بعيد البعيد إليّ، إلى سجادة صلاة أمي، إلى آخر همهمات أخي الذي قتلته حمى الطريق وهول المشهد. هل مات؟ أم سبقني بالعودة إلى هناك؟ هل أنجب في البيت ذرية ترسم فلسطين بسكينها فوق وجه الأرض؟ هل تظاهر بالموت كي يعود ويكبر قرب الزيتونة، وينجب فدائيين كأبي؟ تضحك. يبتل وجهها بالفرح المالح. في قريتنا المقدسية، كنت زينة البنات. وما زلت زينتهن، لأن قريتي لم تزل. ولن تزول. تسخر كثيراً من جارتها هدى، فقيرة مثلي وتتغاوى بأنها نجحت بنيل جنسية لبنانية بعد زواجها. تضحك بسخرية من قهوة وتبغ. هل نحن حقاً طامحون إلى جنسية غير فلسطين؟ ثم تخبرك بلهجة الكبار وثقتهم بما يقولون. في كل نشرة أخبار، ترى أحدهم يتحدث عن رفض التوطين. أخوي مين قلهم بدنا نتوطن عندهم؟ حدا بيحب يموت ويندفن بعيد عن حضن أبوه ولو بقبر؟ تصمت، بين شهيقين من دخان وزفير من حنين، تنفث حكاية الحب التي عاشتها قبل أن تستقر وحيدة في المخيّم، عائدة، تستفزها كلمة لاجئة التي يستعملها الكثيرون، تقول: أحببته جداً ولكن، لم نتزوج لأني انتظرت أن يأخذني عروساً من دارنا. تنهي استراحة بوحها وتنهض، على عكاز من ذاكرة وخشب، تمسح بيدها على وجه يحتفظ بسرّ فلسطيني وتتمتم. بس نرجع ع فلسطين بكملك الحكاية.

0 تعليق

التعليقات