يوم ممل وطويل، قررت أن أمشي دون أن أحدد وجهتي. مشيت ومشيتُ طويلاً، وإذا بي بالقرب من جامعتي التي تخرجت فيها. ما هذا؟ كأني رأيت ظلالا ترقص في الطريق العام! فركتُ عينيّ مرتين لعلّني اتخيل، لكنني عدت أراهم ثانية وثالثة، هذا ما كنت أرى، أرجلهم تتحرك كما لو كان لا وزن لها في كل الاتجاهات، للأعلى وللأسفل.. يميناً وشمالاً، يقفزون فيصنعون دوائر في الهواء، يتسلقون الحائط بمرح، رآني أحدهم.. فلكز البقية لينظروا الي، ضحكوا بعفوية، مدُّوا أيديهم لي، خفت وارتبكت فجمدت مكاني. يرونني هكذا فيضحكون مني ثم يعودون للرقص. بقيتُ أراقبهم خلسة من خلف الدرابزين الذي يفصلني عن الشارع، نصف ساعة وأكثر وما زلت أسمعهم، لكنّ احدا من المارة لم يلتفت اليهم حتى، بل كانوا يراقبونني انا كما لو كنت مجنونة، أو أختبئ من شخص ما.
لم أهتم لهم أبداً، كان صوتُ الظلال يعلو على اصواتهم، لكن، للحظة هدأت حركتهم، نظروا إلى الأعلى فرفعت نظري مثلهم، كانت هناك طائرة تلقي الموت علينا بالرصاص. توقف رقصهم، ولكن لم يتوقف ضحكهم، بل علا، وكما يحصل في "الفوتوشوب"، فجأة بدأت الظلال تتحول وتتحول إلى صور، ثم اخذت الصور تقوم وتلصق نفسها على الجدران، صور نصفية فقط، كإنما اختفت أرجلهم.
كانت الطائرة لا تزال تلقي الموت فركضت آلاف الأمتار. كان صوت لهاثي يعلو ويعلو. صرخ فادي: "إنهم يمرون بنا"! كانوا يستعجلون تجاوزنا الي السماء.
يا ضياء أوجعتني رصاصتك في قلبي وأنت ترقص وجعا، أما أنا، فقد استقرت الرصاصة في حنجرتي، لذا حين غنّيتم لم أستطع أن أُعيد الكلمات معكم، مال رأسي على كتفي وقلت "موطني.. موطني" بحشرجة دموية، لكنني رأيتكم تتجاهلون الوجع والهزيمة، تكابرون.. تُكابرون ففعلت مثلكم وأكثر.
سكتت الاصوات، لكن صور الجدران النصفية بقيت تبتسم لي. علا صوت السيارات وضجيج الشارع. أكانت رؤيا؟ أحسستُ بتشوش شديد لكنني، اقتربت بالرغم من ذلك كله من الجدار، مشيت بجانبهم، قبّلتُ يدي وجعلتها تمرُّ على رؤوسهم جميعاً، ومضيت.
يا شهداء القدس: وجوهكم صكوك كرامتنا، فليقدّس الله سركم ويرحمكم.

* رسم فنانون غزيون صور شهداء القدس على جدران جامعة الأزهر في غزة