«المديرية العامة للآثار مؤتمنة على كنوز البلد، وهي تعاني من شغورات هائلة، ولولا شغف موظفيها بعملهم، وهم بمستويات أخلاقية وإنسانية وعلمية عالية جداً، رغم أن مداخيلهم المادية محدودة جداً، لما كانت المديرية واقفة على أرجلها حتى اليوم»، بهذا الكلام يبدأ الوزير ليون حديثه عن المديرية العامة للآثار.عندما اكتشف ليون هذا الواقع، لدى تسلمه الوزارة، قرر أن يبدأ بحثه عن مدير عام للمديرية يكون من أهل الاختصاص، لا شخصاً إدارياً عادياً. ويقول «بحثت في داخل الملاك، كما فعل الوزير سليم وردة قبلي، على عالم آثار ماروني لأن التعيينات الإدارية في هذا البلد موزعة طائفياً، فلم نعثر عليه. كان الخيار الثاني بأن نفتح الباب لأشخاص كفوئين من خارج الملاك ونضع إعلانات في الجرائد وتبدأ الجردة ... ولكن، لماذا نقوم بذلك؟ في المديرية شخص كفوء متعاقد معها منذ 16 سنة، وحاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون الفرنسية، ويعرف الملفات جيداً وله كل الخبرة المطلوبة. لذلك حرّكت آلية تعيين الدكتور أسعد سيف خلال الصيف، قبل أن يبلغ سن الـ 44. لكن، لم نحصل على موافقة الحكومة على تعيين مدير عام واحد، في حين أن الشغور يطال كل المؤسسات العامة. أنا لم أخالف قانوناً وإنما آلية العمل، وذلك إيماناً مني بأن المدير العام للآثار يجب أن يكون من أهل الاختصاص، ولديه الكفاءة والخبرة في العمل الميداني والبحثي في آن، ولا يجب أن يأتي تعيين المديرين العامين على أساس درجاتهم في الوظيفة فقط. وإن لم أفتح باب المنافسة فلأن أسعد سيف، وهو المسؤول عن الحفريات في بيروت، كان سيتنافس مع فريق عمل يترأسه اليوم في الحفريات في بيروت وخارجها».
إذاً، لا يخفي ليون إيمانه بـ«كفاءات» سيف، وبأنه «الشخص الأفضل لهذا المنصب»، لكن «ضمن إطار القوانين الخاصة بموظفي الدولة»، ولذلك «حينما لم نفلح في تعيين سيف مديراً عاماً»، بسبب تجاوزه سن الـ 44 التي ينص عليها القانون، «قررنا أن نمنهج العمل في المديرية العامة للآثار بقرار توزيع مهمات على بعض المتعاقدين، وهو ليس أكثر من تثبيت للواقع الحالي داخل المكاتب. وهذه الطريقة قانونية 100% ولا يمكن الطعن بها أمام مجلس شورى الدولة لأنها ليست قرارات تنظيمية، إنما توزيع مهمات. ولو لم نقم بهذه الخطوة لكان الوضع اليوم داخل المديرية أكثر مأسوية مما هو عليه حالياً».
عملية تنظيم سير العمل في المديرية العامة للآثار تتماشى مع نظرة ليون وفريق مستشاريه الى «مغالطات» قانون الآثار الجديد (رقم 35/ 2008) الذي يقضي بتنظيم وزارة الثقافة، وبتغيير صيغة عمل المديرية العامة للآثار وبفصل المتاحف عنها. ويقول ليون «أنا سياسياً ضد الإكثار من المؤسسات العامة لأنني اعتبرها بمثابة خلق دولة رديفة للدولة القائمة، ولسلطة الوزارة الهرمية. كما أن المتاحف اللبنانية هي متاحف أثرية وتستمد قطعها الأثرية من التنقيبات التي تتم تحت إشراف المديرية العامة للآثار التي تعمل أيضاً على ترميم القطع وحفظها ومن ثم عرضها في المتاحف، لذا نعتبر أن من الخطأ الفاضح فصل المصلحتين. المتحف الوطني في بيروت لا يشبه متحف اللوفر بتركيبته ولا يشتري من السوق قطعاً يعرضها ضمن معارضه ... لذا يجب أن يبقى تحت إشراف المديرية العامة للآثار لأنه جزء لا يتجزأ من تركيبتها. وكان خطأ أن تطرح عملية الفصل، وسنتقدم في الأسابيع المقبلة بمشروع تعديل قانون الآثار لإعادة المتاحف الى مجموعة العمل هذه، وستعود للمديرية (كما كان سابقاً) ثلاث مصالح: المتاحف، الحفريات، والأبنية التاريخية. كما أن آلية العمل بهذا القانون الذي وافق عليه مجلس النواب لم تكن ممكنة بسبب غياب المراسيم التطبيقية، وهذا ما نعمل اليوم على إنجازه».
يقول ليون إنه، قبل تسلّمه مهماته، لم يكن ضليعاً بملفات المديرية العامة للآثار، ويقول: «أنا إنسان طيب بطبيعتي، لكن المديرية العامة للآثار أفسدتني. ففريق العمل في هذه الإدارة يتميز عن باقي الإدارات بقدرته على تفكيك الإدارة والطعن بأفرادها وعدم التأخر في استعمال النيابة العامة لتضخيم الخلافات اليومية. وتقدمت من رئيسة الديوان (جمانة نخلة) بطلب خطي لتسليمي نسخة عن الدعوى التي تقدمت بها الى النيابة العامة المالية وتاريخ ذلك، للتأكد من صحة ذلك».
وإلى المديرية العامة للآثار، تحفل وزارة الثقافة بكثير من الملفات الساخنة، منها تحول المتاحف والمواقع الأثرية إلى مرتع للصوص والمعيثين فساداً. ففي غياب حراس المتاحف، بسبب النقص الهائل في الموظفين وقرار منع التوظيف، اضطرت المديرية الى إقفال أبواب المتاحف في المناطق، ويقول الوزير إنه يطالب الآن برصد مبالغ لتأمين أنظمة حماية للمتاحف لمراقبتها على مدار 24 ساعة، «كما يتم التداول في أفضل الطرق لتأمين مراقبة دائمة في أوقات الزيارات. ونحن بصدد بدء تأمين حراس للمواقع الأثرية، وخصوصاً تلك النائية التي لا تحظى بأي نوع من الحماية».
ويبقى ملف البيوت التراثية من أكثر الملفات سخونة في الوزارة، وخصوصاً تلك الواقعة في بيروت. يصرّ ليون على أن «هذه العاصمة تخسر رونقها وأصلها وهويتها كل يوم أمام الأبراج الباطونية، وأسعار العقارات المرتفعة كرّهت الناس ببيوتهم القديمة. فلم يعودوا يريدون المحافظة عليها، فباتوا يسعون الى بيعها لاستبدالها بأبراج عالية لا تستطيع البنية التحتية للمدينة أن تتحمل ضغطها». ويؤكد الوزير أن طلبات الهدم التي لا تزال البلدية ترسلها الى وزارة الثقافة، بناءً على قرار مجلس الوزراء، يكون الجواب عليها واحداً: الرفض خصوصاً للبيوت التي صنفت في السنوات الماضية على أنها من الفئة A - B - C. ويرفض ليون تمويل جردة جديدة لتقويم وضع البيوت الباقية، وتحديد ما هدم، ويقول إنها «كسابقاتها ستؤدي الى تحرير عدد كبير من البيوت من التصنيف وتسببت بهدمها. وتفضّل الوزارة اليوم أن تبقى آلية العمل على حالها، وأن تتعامل مع ملفات البيوت القديمة بشكل تفصيلي، وحينما تطرح كل مشكلة على حدة».



استقالات بالجملة...

سنة 2006، وبعد سنين من الشغور والانتظار، أقامت المديرية العامة للآثار مباراة لتوظيف 13 عالم آثار بالتعاقد، كانت في أمسّ الحاجة اليهم. دُرست الطلبات عبر مجلس الخدمة المدنية وتم انتقاء فريق عمل لكي يبدأ عصر «النهوض بالمديرية العامة للآثار». لكن الحلم لم يستمر طويلاً! فـ«الدم الجديد» رفض ان يأكله الروتين الاداري بالاستغراق في كتابة التقارير اليومية والمراسلات على حساب الجولات الميدانية والابحاث التي كانوا يحلمون بها. لذلك، تتالت الاستقالات، وكانت الحجج التي تُعطى لذلك هي قلة المردود المادي، وهي الذريعة التي يجدها المتعاقدون مضحكة، إذ إنهم كانوا يعرفون بالمردود قبل الدخول الى المديرية. لكن الضغوط التي تعرضوا لها لتثبيت مواقف او تحديد سلطات بعض الاشخاص حوّلت النهضة المأمولة الى نكسة. والمضحك – المبكي أن جو العمل في ارجاء المديرية لا يزال هو نفسه، فبعد استقالة المدير العام للآثار، وقبله مديرة المتحف الوطني، سُجلت قبل اسبوع فقط استقالة آخر المتعاقدين ولم يعد في المتحف الوطني، بالتالي، اي موظف! كل ذلك من دون أن يسأل احد عن السبب الاساسي وراء كل هذه الاستقالات، وكأن السبب يكمن خارج جدران مكاتب المديرية!



إشكالات شخصية

لا تختلف المديرية العامة للآثار عن باقي الادارات، فالامور الشخصية بين الموظفين ليست على افضل ما يرام. وليس مستغرباً ان تخرج اشكالاتهم الى وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، فاهتمام الناس بهذه الادارة يأتي من حرصهم اولاً على تاريخ لبنان أو من خوفهم على مصالحهم ثانياً. فمن يعنى بالمحافظة على التراث ترعبه المشاكل لأنها قد تؤدي الى عمليات جرف للمواقع الاثرية كما جرت العادة في بيروت. اما بالنسبة إلى المصالح، فكل خلاف داخل المديرية يكون الرابح فيه اصحاب الملايين الذين «يمرحون» كما يشاؤون. وفي بعض الاحيان تأتي الخلافات بسبب محرك خارجي يعمل على تثبيت سلطته داخل مكاتب المديرية، كالوزير الذي لم يفهم بعد معنى انتهاء فترة وزارته، لذا يعمل بلا انقطاع على سياسة «فرق تسد».