«عاصمة الحمضيات». لقب «ركب» على مدينة صيدا تاريخياً، عندما كانت كل زراعاتها تتمحور حول الحمضيات. أما اليوم، فقد بات هذا اللقب مجرد «ذكرى»؛ فعشوائية اجتياح الباطون لبساتينها أفقدتها خاصيتها. وما بقي، بضعة بساتين لا تتجاوز عدد أصابع اليدين، قد تجرف في أي وقت، من أجل مشاريع تجارية، أو لاستبدالها بزراعات «ماشي سوقها».أخيراً، اقتلعت أشجار الحمضيات قرب معبد أشمون، وقبلها البستان الكبير ومنطقة البراد والمهنية والحسبة، لتلتحق بركب بساتين غزاها الباطون مع نمو سكاني مطّرد منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي. يأسف «البستنجي» محمد نحولي لما آلت إليه الحال، مترحماً على «أيام كانت لبساتين المدينة وفرة إنتاج حمضيات بأنواعها: الليمون والأفندي والكلمنتين والأكيدنيا والليمون الحامض والكريب فروت». ما وصلت إليه الحال الآن يدفع نحولي إلى الجزم بأن «لبنان سيستورد بعد سنوات حمضيات من السوق العربي». يقول بحسرة: «انقلاب تاريخي، كنا أسيادها وهلق صرنا نطبل بعرسها». يذكّر كلام نحولي بالدور «الاقتصادي» الذي أدته بساتين الحمضيات في ازدهار اقتصاد المدينة. قبل قرن، كان في صيدا «ثلاثمئة بستان حمضيات، ومئة وعشرات آلاف الهكتارات»، وفقاً لمؤرخين صيداويين. وكان «المطعوم» (شجرة الحمضيات) «ينتج درراً من برتقال وحمضيات لا تضاهي طعمها أية جودة» بحسب أبو محمود الجردلي. ويشهر المتابع «رُجعاً» (فواتير بلغة أهل البساتين) قديمة تعود لوالده، موقعة من تاجر دمشقي، تظهر مبيع ليمون الشموطي والسكري والماوردي والحامض بـ3610 ليرات لبنانية، في عملية تصدير واحدة، جرت في ستينيات القرن الماضي. يعقب شارحاً: «ما بالك بموسم كامل؟ كان بيغني صاحبو». ويستفيض الجردلي جازماً بأن «الخبرات الفلسطينية بصمت بعد النكبة بساتين حمضيات صيدا بفعل العقل الزراعي الفلسطيني واليد العاملة الفلسطينية». بفعل تلك الخبرة، غزت آلاف أطنان الحمضيات سنوياً بلاداً عربية كانت تفاخر بوجود الحامض الصيداوي في أسواقها. ومع مرور الزمن، «تقهقرت حمضيات صيدا»؛ إذ أقفلت معامل توضيب وبرادات، كانت تصدّر حمضياتها على مدار السنة وتشغل يد عاملة، واستعيض عن شجر الحمضيات ببدائل اقتصادية تجارية وزراعية قد تعود على أصحابها بربح سريع. لكن، من يعوض وظيفة بيئية «غائبة» قدمتها بساتين المدينة وجمال مشهدها؟ كثيرون في المدينة يرون أن اختفاء بساتين الحامض والليمون والأكيدنيا التي كانت تنقي الهواء من الشوائب سبّب الأمراض. يتحسر نحولي على «هواء نظيف كنا نتفسه طوال العمر»، معقباً بأسف: «نسل الحمضيات وبساتينها يكاد ينقطع في مسقط رأسها صيدا المشوهة بالباطون». ويشارك أهل المدينة نحولي حسرته. يطلبون «إعادة الاعتبار لعائلة الحمضيات الصيداوية»، كما اقترح كثيرون منهم، أخيراً، «زراعة الحمضيات في ساحات المدينة» حفاظاً على «تراث» زراعي صيداوي.
وليست وحدها صيدا من خلعت ثوب زراعة الحمضيات، مستبدلة بساتين ليمونها وزهره بباطون أو زراعات بديلة. سيلاحظ قاصد المدينة الفارق سريعاً، وتحديداً الزائر من جهة الساحل الجنوبي الذي انتشرت عليه تلك البساتين سابقاً، كزراعة أساسية في المنطقة منذ 75 سنة. بساتين الحمضيات «صفّيت» وتحول مزارعوها إلى زراعات بديلة، ولا سيما زراعة الموز. وهنا، يبدي المهندس الزراعي محمد فاضل أسفه «لتراجع زراعة الحمضيات التي كانت سابقاً في رأس قائمة الزراعات اللبنانية»، متحدثاً عن عوامل عدة، منها التوسع العمراني، الذي حدا مزارعين إلى الاستعاضة عن بساتين الحمضيات ببدائل زراعية. وما بقي من تلك البساتين «شاخت أشجاره، مثلاً في الجنوب». أما استبدالها بأخرى جديدة فتية، «فمكلف مادياً»، يتابع. ويضيف: «كذلك إن الشجرة الجديدة تحتاج إلى أكثر من خمس سنوات كي تكبر وتنتج، وهي سنوات ضائعة يتحاشاها مزارعون. لذلك، يفضلون استبدالها بالموز؛ لأن عمر إنتاجه مثلاً هو أقل بكثير». ويضاف إلى كل هذه «الكلفة المادية الناتجة من رش الحقول بالمبيدات والتسميد وتسوية الأرض والاعتناء بالأشجار». ولتصريف الإنتاج حكاية أخرى؛ فسابقاً، كان التصدير إلى دول الخليج العربي وسوريا والأردن وتركيا، صعباً بعض الشيء، بعدما باتت معظم هذه الدول تهتم بزراعة الحمضيات، «وباتت حمضيات لبنان لا تصدر إلا إلى دول محددة، منها السعودية». ثمة أمر آخر أيضاً، هو «الهدايا الصيداوية»، فلم يعد بإمكان الصيداوي التباهي بـ«صندوقة الحامض أو البرتقال»، فقد بات يحتاج إليها بعدما فُقدت بساتين الحمضيات.