قبل عامين، احتفلت نقابة المحامين في بيروت بمناسبة مرور 90 عاماً على تأسيسها. وعلى مسافة زمنية غير بعيدة، قبل عامين أيضاً، كان كثير من المحامين يحتفلون بحدث من نوع آخر. لقد خُرق آنذاك عرف ذكوري دام 9 عقود. أصبحت أمل حداد، ابنة النقيب السابق فايز حداد، أول امرأة تتبوّأ منصب نقيب المحامين في تاريخ لبنان. اليوم، يفصل أقل من شهر على مغادرة حداد منصبها، التي لن تخلفها فيه، حتماً، امرأة أخرى.في لقائها مع «الأخبار»، بدت حداد حريصة على إظهار نفسها بمظهر المترفعة عن شغل المناصب، التي «لو أردتها لوصلت إليها بسهولة، والجميع يعلم أنه عرض عليّ منصب وزاري في الحكومة الحالية، لكني رفضت ذلك، لأنه بوصولي إلى منصب النقيب أكون قد تعهدت معنوياً وأخلاقياً للمحامين عدم التخلي عنهم». تنقل عن أحد المسؤولين في الدولة قوله لها: «برفضك العمل الوزاري تحرمين نفسك صفة دولة الرئيس (عرض عليها منصب وزاري مع نيابة رئاسة الحكومة)، التي تلازمك مدى الحياة. فقلت للمسؤول إنه، بحسب قناعتي الشخصية، لا شيء أهم من النقابة».
لم تشهد ولاية حداد أزمات نقابية، أو معارك سياسية، باستثناء ما أثير أخيراً بشأن علاقة المحامين بوسائل الإعلام. إذ استدعي المحامي كارلوس داوود إلى النقابة، بسبب كتابته رأياً قانونياً في نشرة «المفكرة القانونية». لا ترى النقيبة في هذه المسألة «أزمة، أو حتى مشكلة، فالإعلام هو الذي صنع منها قضية، كل ما في الأمر أن النقابة طلبت من المحامي إيضاحاً، لا أكثر، وقد جلست معه بعدها 4 ساعات واتفقنا على كل شيء». وتوضح حداد أن للمحامي «حرية في الظهور الإعلامي، لكن ضمن القوانين المرعية الإجراء، فهذه القوانين لم أضعها أنا. القانون يمنع على المحامي أي دعاية ترويجية، وهناك خيط رفيع بين حريته وواجب عدم الدعاية». تستفيض حداد في شرح هذه المشكلة، التي «ضُخّمت وجُعلت قضية حريات»، فتقول: «لا أحد يمكنه منع المحامي من إبداء رأي قانوني في الإعلام، كيف يمكن منع ذلك؟ لكن أن يطلّ المحامي عبر وسائل الإعلام ليفضح تحقيقات قضائية، أو ليتكلم في قضية ما زالت أمام القضاء، وهو وكيل فيها، ثم يرد عليه المحامي الخصم في الإعلام أيضاً، فهذا غير مقبول، لأننا بذلك نشوه رسالة المحاماة، ونعيق تحقيق العدالة. لقد آن لهذا الموضوع أن يقفَل».
لا تنفي حداد، التي تصف نفسها بالمستقلة سياسياً، حاجة قوانين النقابة إلى «عصرنة وتطوير»، لكن إلى ذلك الحين لا بد من التقيد بها. تلفت إلى أن والدها، النقيب السابق، هو من وضع قانون تنظيم مهنة المحاماة عام 1970. ترفع عن مكتبها كتاباً يتحدث عن آداب مهنة المحاماة في فرنسا. تقول إنها ما زالت تقرأ هذا الكتاب، لتستوحي منه أفكاراً بغية تطوير المهنة في لبنان، وذلك لكون «قوانيننا مستوحاة من القوانين الفرنسية واللاتينو ـــــ جرمانية». تعود إلى موضوع الحريات، لتؤكد أن حرية الرأي أمر منصوص عليه في شرعة حقوق الإنسان، وقد كُرّس في الدستور اللبناني، لكن «يفترض التنبه إلى أن المحامي ليس صحافياً، نعم يمكنه أن يتناول المواضيع القانونية، لكن لا يمكن المحامي ممارسة مهنة أخرى، وهذا منصوص عليه في القانون تحت عنوان التمانع. كل النقباء قبلي تحدثوا عن هذا الموضوع، وأنا لم آت بشيء من عندي».
يمكن، بسهولة، ملاحظة أن حداد تنتمي إلى ما يحلو للبعض تسميته «الزمن الجميل». ربما لديها حنين إلى حقبة السبعينات، التي كان فيها والدها نقيباً للمحامين. فهي تصر على ارتداء «الكوستيم» المحتشم، ووضع كل شيء في مكانه. عاشقة، حد النهم، للغة العربية وآدابها، فهي التي لطالما اضطر المحامون إلى أن يعودو إلى قواميس اللغة، ليفهموا بعض مفردات بياناتها. «لقد أحببت اللغة العربية منذ طفولتي، أيام المدرسة، ثم طورت هذه الهواية. هذا الأمر أفادني كثيراً في عملي كمحامية، أنا محامية جزاء مترافعة، وهذا شيء نفتقده اليوم بين المحامين». يعجبها أن يكون إلمامها بالعربية ملحوظاً، وخصوصاً في البيانات والخطابات الرسمية، فـ «أنا أتفادى الارتجال، لأني أتكلم باسم المحامين، وبالتالي ممنوع الغلط في اللغة والتشكيل والأفكار».
يُسجَّل لحداد اهتمامها البالغ بالترتيب. كل شيء لا بد أن يكون مرتباً، داخل المكتب وخارجه. أكثر من ذلك، فقد اشتهرت بين المحامين برفضها استقبال أيّ محامية «غير محتشمة، وتحديداً إذا كانت من لبّيسة الجينز». ترفض التمييز بين الرجل والمرأة، فتقول: «مجيئي، كأول نقيبة للمحامين، هو انتصار للرجل قبل المرأة، فأنا لم أصبح نقيبة إلا بأصوات المحامين الرجال. يمكن القول إن مجيئي انتصار للرجل على تعصبه، وطبعاً لا تعميم في ذلك». وتضيف في هذا السياق: «بانتخابي مهدت للمرأة طريقاً لتتبوّأ مراكز القرار في لبنان، لا إلى مراكز في مجالس الإدارة وما شاكل، فها هي اليوم سيدة قاضية مطروح اسمها لتبوّء منصب رئاسة مجلس القضاء الأعلى، وإن حصل هذا، فإنها ستكون أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ لبنان».
«لا يؤخذ الشيء إلا من مصادره». بهذه الكلمات تتوجه النقيبة إلى كل الإعلاميين، الذين «يدخلون أحياناً السياسة في عمل النقابة. بالله عليكم جنّبوا أيّ استحقاق نقابي التجاذبات السياسية، وأنا أعلم بمحاولات التدخل من أهل السياسة، لكن فلتبق النقابة للمحامين. في الانتخابات المقبلة سأضع ورقة بيضاء، ولن أصوّت لأحد، كما فعلت في الانتخابات الفرعية».
يوم تربعت على رأس هرم النقابة، ظن بعض المحامين، انطلاقاً من حسابات أنثوية، أنها ستكون أكثر ليناً ممن سبقها من رجال. خابت ظنون هؤلاء، إذ وجدوا أنهم أمام سيدة «حديدية» في عملها، وأنها من دعاة «التشدد في تطبيق القوانين، طالما أنها قوانين سارية المفعول». خلال ولايتها لم تظهر أي ميول سياسية، وبالتالي لم يكن لها تصنيف حزبي واضح. اليوم، ومع مغادرة حداد، ابنة مدينة زحلة، التي جاءت بعد 44 نقيباً، يقول أحد المحامين القدامى عن الخلف المتوقع... «الله يستر من السياسة».