لم تيأس شركة فينوس العقارية، المملوكة من متمولين لبنانين وعرب، من محاولاتها الحثيثة لجرف الحفريات الأثرية التي أجريت في العقار الرقم 1398 من منطقة ميناء الحصن العقارية، وأسفرت عن اكتشاف منشأة بحرية من الفترة الفينيقية، اختلف علماء الآثار حول دورها، بين من رجّح أن تكون ميناءً وأن تكون منطقة ميناء الحصن قد اكتسبت اسمها منه، وبين رأي آخر يرجح أن تكون عبارة عن مقلع صخور استخدمت في بناء مرفأ. لكن غالبية هؤلاء العلماء أوصت بضرورة المحافظة عليها في موقعها. تناهز قيمة مشروع «فينوس تاور» ثلاثة أرباع مليار دولار أميركي، وهو يمتدّ على مساحة 7510 أمتار، ووصلت قيمة المساحة الإجمالية المسموح ببنائها الى 63 ألف متر، ما يجعله واحداً من أضخم مشاريع الأبنية السكنية في بيروت.

«سلّط الاكتشاف الأثري غير المسبوق الضوء على الدور الجغرافي والاقتصادي الحيوي لمدينة بيروت في الفترتين الفينيقية والرومانية، وعكس مشهداً يفوق ٢٥٠٠ عام لتفاصيل حياة الفينيقيين وتفاعلهم مع بيئتهم وحسن استخدامهم لمواردها بغية تأمين احتياجاتهم في البناء والصيد والإبحار والإتجار والتطور والاستمرار والتواصل مع باقي المدن على الساحل اللبناني، وباقي مدن وشعوب حوض البحر المتوسط»، وذلك وفقاً لما جاء في قرار وزير الثقافة السابق سليم وردة الذي أدخل جزءاً من العقار في لائحة الجرد العام للمواقع الأثرية والأبنية التاريخية. وينص القرار الذي صدر في ٤ نيسان ٢٠١١ على أنه «لا يجوز القيام بأي عمل من شأنه تغيير الوضع الحالي للعقار من دون الموافقة المسبقة للمديرية العامة للآثار على الأعمال المنوي إجراؤها والمواد المنوي استعمالها».
استند وردة في قراره الى آراء مجموعة من الخبراء من داخل مديرية الآثار ومن خارجها جمعتهم لجنة علمية شُكّلت بهدف التدقيق في أعمال الحفر التي تجري في بيروت وإعطاء رأيها الاستشاري غير الملزم في المكتشفات وطريقة المحافظة عليها. ورغم التباين العلمي بين علماء الآثار حول دور المدرجين الصخريين اللذين تم اكتشافهما في الموقع (٦من أصل ٩ علماء جزموا بأنها مرفأ فينيقي)، إلا أنهم أجمعوا على ضرورة المحافظة عليهما مع كامل الحوز الصخري المحيط بهما، والطلب من أصحاب العقار إجراء التعديلات اللازمة في الخرائط الهندسية للمشروع.


ومن العناصر التي ارتكزت عليها اللجنة لإبداء رأيها فرادة المدرجين ومحيطهما في مدينة بيروت وفي المدن الساحلية، وذلك لقلة عدد المدرجات المكتشفة على طول الشاطئ اللبناني. وأوصت اللجنة باستكمال الدراسات العلمية والأثرية على المكتشفات من قبل متخصصين للتأكد من النواحي العلمية والعملية والتاريخية المتعلقة بتلك المكتشفات.
بمعزل عن حرص الوزير وردة الثقافي الذي حتّم قرار إدخال المرفأ الفينيقي على لائحة الجرد العام، فإن توقيت إدخاله في مرحلة تصريف الأعمال يجعل من قراره بمثابة «لغم سياسي» في وجه خلفه الذي شاءت المصادفة أن يكون الوزير غابي ليون، المحسوب على التيار الوطني الحر، غير آبه لارتباط العقار بمساهمين من فريق عمل الرئيس سعد الحريري، الحليف الاستراتيجي لحزب القوات اللبنانية.
التكتيك القواتي المحسوب بدقة، نجح حتى الآن في استدراج الوزير ليون الى مسافة قريبة جداً من مكان زرع اللغم. وبحسب وثيقة صادرة عن شركة فينوس، حصلت «الأخبار» على نسخة منها، خاطبت الشركة الوزير ليون بموضوع «فك وإعادة تركيب المنزلقات الموجودة في العقار ١٣٩٨»، متجاهلة قرار وردة الذي نشر في الجريدة الرسمية وتسلم المالكون نسخة منه، ومتجاهلة أيضاً الاقتراحات التي تفاوض الوزير السابق مع ممثلين عن الشركة حولها بهدف حفظ المكتشفات الأثرية في موقعها ودمجها ضمن المشروع العمراني، عبر إعادة تموضع البناء الشمالي (بلوك ب) الذي تتقاطع مساحته ومساحة الآثار في موقع آخر على العقار، أو تغيير محور البناء بشكل يتوازى مع المنزلقين، على أن يتم بناؤه بينهما إذا كان ذلك ممكناً، أو إبقاء البلوك ب في موقعه، مع إبقاء الجزء الشرقي من العقار في الطبقة السفلية منه ويصبح الجزء الغربي مكشوفاً ضمن حديقة».
وتقول الوثيقة التي أرسلتها فينوس الى ليون: «عطفاً على الاجتماعات السابقة والتي جرى فيها اقتراح فك المنزلق الشرقي من أجل نقله وإعادة تركيبه ودمجه لاحقاً ضمن الفسحة المفتوحة المخصصة للحدائق، نقترح بناءً على خرائط طوبوغرافية أن يقوم مهندس بدراسة أبعاد أجزاء المنزلق وتحديد الأماكن حيث يجب قصها للتأكد من أن وزن كل جزء سيتراوح بين خمسة أطنان كحد أدنى، وثمانية أطنان كحد أقصى لتسهيل عملية رفعه ونقله».
إذاً، فإن الشركة لا تقترح تفكيك المنزلقات، بل تقطيعها بمنشار صخري، ما يحتم انتفاء قيمتها الأثرية بكونها صخوراً نحتت في الفترتين الفينيقية والهلنستية، أي قبل أكثر من ألفي سنة لتصبح مجرد حجار تزيينية مقصوصة على المنشار! كما تقترح أن يقوم الفريق الطوبوغرافي مجدداً بتحديد الموقع الجديد لوضع المنزلقات في فسحة مفتوحة في الجهة الجنوبية الغربية للعقار. وتختم الوثيقة: «تقوم شركة فينوس بالتحضير لحفل افتتاح برعاية وزير الثقافة للتعريف عن موقع الآثار والإعلان عن التعاون بين الوزارة والقطاع الخاص الذي أثمر عن دمج مكتشفات أثرية مع تطوير عقاري حديث من دون الإضرار بتاريخ مدينة بيروت المجيد أو بقيمة المشروع المعمارية والتجارية».
يمكن بعملية حسابية ببسيطة «تقريش» كلام المدير العام لشركة فينوس محمد قسام عن «قيمة المشروع التجارية» في اقتراحه المقدم الى الوزير ليون، من خلال العودة الى الخرائط الهندسية الأساسية التي ترفض الشركة إجراء أي تعديل فيها، حيث يتبين أن البلوك ب هو برج يتألف من 26 طبقة، كل منها تتألف من شقتين، ويتوقع أن يصل سعر المتر المربع فيه الى ما يزيد على ١٦ ألف دولار، بحسب ارتفاع الطبقة. ورغم أن الاقتراح بإبقاء المكتشفات الأثرية في مكانها قدّم مروحة خيارات واسعة، أسوأها يمكن أن يؤدي الى خسارة طبقات سفلية هي عبارة عن مواقف سيارات، إلا أن الشركة تصرّ على إزالة الموقع الفينيقي بأكمله.
ينفي الوزير ليون في اتصال مع «الأخبار» أن يكون قد حسم أمره لجهة الموافقة على قص المرفأ الفينيقي ونقله من موقعه الأصلي، ولفت الى أنه ينتظر رأي اللجنة العلمية التي عيّنها من أجل اتخاذ القرار النهائي. وخلفت هذه اللجنة التي تضم الخبراء: سمير الشامي، البير نقاش وحسان سركيس، اللجنة التي عيّنها وردة وتضم الخبراء: ليلى بدر، جنين عبد المسيح، ندين بانيوت وأنيس شعيا، إضافة الى لور سلوم وأسعد سيف من مديرية الآثار.
الباحث ألبير نقاش قال في اتصال مع «الأخبار» إن اللجنة اطلعت على خمس دراسات أجريت على الموقع، «وأنا فوجئت بقرار الوزير وردة إدخاله على لائحة الجرد العام، في وقت استكملت في عهده عملية الجرف الممنهج لآثار أكثر أهمية في بيروت، وهذا القرار يجب ألا يترتب عليه أي تعويض للشركة. أما عملية الحفاظ على الموقع في مكانه أو إزاحته فأمر متروك للوزير أن يقرر في شأنه».



دور اليونيسكو

اكتشفت في الموقع الذي أشرف على أعمال الحفر فيه خبير الآثار هشام الصايغ، إضافة الى المنزلقات الصخرية والآبار المحيطة بها، مصطبات صخرية محفورة في الصخر وبئر وخزان من الفترة العثمانية وخزان من الفترة الرومانية، وبيّن التسلسل الطبقي لأعمال الحفر أن المنزلقين يقعان في المستويات السفلى للموقع، ما يعطيهما تاريخاً أقدم، ويعكف حالياً على دراسة اللقى الفخارية التي تم اكتشافها في الموقع بهدف القيام بتأريخ دقيق، علماً بأنه يرجح أن تكون هذه المنشأة البحرية قد بنيت في القرن الخامس قبل الميلاد.
وفيما اختلفت الآراء بشأن النواحي العلمية والعملية والتاريخية المتعلقة بالمكتشفات، لماذا لا يطالب برأي استشاري لخبراء من منظمة اليونيسكو، ما يحسم الجدل لجهة فرادة الموقع والمحافظة عليه في مكانه.



دراسة

بين بيروت والقيصرية



تدافع الخبيرة في الآثار البحرية مارتين فرنسيس، بقوة، عن الرأي العلمي الذي يقول إن المدرجات التي اكتشفت في موقع فينوس تاور تعود الى مرفأ فينيقي. وتلفت الى أن هذا الرأي يشاركها فيه كل من جنين عبد المسيح وإيريك غوتفالز وأنيس شعيا. وأضيفت الى رأي هؤلاء دراسة صدرت أخيراً للباحثة في جامعة آسي في رومانيا آنا ماريا بوسيلا تقارن فيها بين الموقع ومواقع أخرى مشابهة في كيتون في قبرص ودور والقيصرية في فلسطين المحتلة. وخلصت بوسيلا الى أن الموقع المكتشف في بيروت يجعل منه منشأة بحرية فريدة من نوعها. وتضيف: «هذا الموقع الوحيد في لبنان الذي نجد فيه هذه المدرجات المتجهة الى البحر. في الموقع عدة آبار حفرت في الصخر وقعرها يتوافق مع مستوى سطح البحر في تلك الحقبة، ويرجح أن المياه المالحة التي كانت تستخرج منها استخدمت لنقع أخشاب السفن قبل عودتها الى البحر كي لا تنكسر». وقارنت بوسيلا عبر عدة صور أرفقت بالدراسة بين هذه الآبار وآبار مشابهة في فلسطين المحتلة.