مشهد أولقصدت أمّ علي م. مخفر المريجة للإبلاغ بأن ابنها غادر المنزل منذ أيام ولا تعرف مصيره، مشيرة إلى أن الاتصال مقطوع معه. تقدمت الوالدة بادعاء لدى الفصيلة، وصارت تراجع يومياً، أملاً بمعلومة تكشف مكانه. في إحدى المرات، أعادت الوالدة الباكية سرد التفاصيل على عسكري في المخفر، فسألها الأخير على نحو جدّي: «ألستِ أمّاً؟». ردّت الوالدة الحائرة بالإيجاب. سألها مجدداً، بشيء من التهكم: «مش قلب الأم دليلها؟». استغربت المرأة سؤاله، لكنها جارته بهزّ رأسها. عندها انفجر ضاحكاً ليقول: «خلّي قلبك يدلّك عليه».

مشهد ثان
يقف شرطي سير تحت جسر الكولا، حاملاً بيده دفتر محاضر الضبط. تتوقف سيارات وحافلات عمومية لنقل الركاب، فيصرخ الشرطي بالسائق: «يا حيوان قرّب عالسريع». يستنكر أحد السائقين شتيمة الشرطي. استنكار يتطور إلى تلاسن بين الاثنين. عندها يحرر الشرطي محضر ضبط بحق السائق، مرفقاً ذلك بعبارة «إنتو ما بتفهموا إلا هيك». يبدو السائق المهان يكظم غيظه بصعوبة وتكاد عروقه تنفجر من شدة غضبه، ومن شدة عجزه أمام «قوة القانون».
مشهد ثان ــــ تابع
أمام أحد المحالّ قرب جسر الكولا، تتوقف سيارة فخمة وسط الطريق، محدثة زحمة سير بعد عرقلة السير، باعتبار أن الطريق لا يسمح بمرور أكثر من سيارتين. الشرطي نفسه (في المشهد السابق) كان موجوداً، لكنه لم يحرك ساكناً. هنا يبدو، هو الآخر، عاجزاً ومتجرداً من «قوة القانون» أمام سطوة من في السيارة!
مشهد ثالث
الإشارة الضوئية حمراء عند تقاطع سبيرز، تتخطاها سيارة رباعية الدفع مزوّدة بزجاج حاجب للرؤية. شرطي السير لا يحاول شيئاً. في تلك الأثناء، تحذو حذوه سيارة من نوع هوندا، ذات موديل قديم. يشير الشرطي إلى سائقها بالتوقف. يقترب منه، طالباً إليه إبراز أوراقه الثبوتية بعد صراخه: «هل أنت أعمى؟ ألم تر أنها حمراء؟»!
هذا غيض من فيض الحالات التي يصادفها كل لبناني يومياً. حوادث يومية رسّخت النظرة السلبية تجاه بزّة قوى الأمن الداخلي، فهزّت الثقة بينها وبين المواطن. ورغم أن مؤسسة قوى الأمن الداخلي، نظرياً، هي المؤسسة الأهمّ في حياة المواطنين اليومية لجهة الاضطلاع بحلّ المشاكل وحفظ النظام، فكثيرة هي الروايات عن «قلة الأخلاق» التي تطبع تصرفات العديد من رجالها، وعن تصنيفهم المواطنين «فئة أولى» و«فئة ثانية»، اعتماداً على موديل السيارة أو رقمها، فضلاً عن الكلام على الفساد، ما يرسّخ هذه النظرة السلبية، ويخلق عدوانية لدى المواطنين تجاه كل من يرتدي البزة الرمادية المرقطة، حتى لو كان ينفّذ القانون بأمانة. ومن دون أن نستثني الظروف السياسية التي مرّت بها البلاد في السنوات الست الماضية وما شهدته من استقطاب سياسي صنّف المؤسسة الأمنية في خانة تيّار سياسي، ما خلق نفوراً من عناصرها لدى أنصار التيارات السياسية الخصمة.
يرى مسؤولون أمنيون في هذه العلاقة الملتبسة أمراً طبيعياً، فكلاهما، رجل الشرطة والمواطن، على تماس يومي، الأمر الذي يُحتّم حصول كباش بينهما. إضافة الى ذلك، يشير أحد المسؤولين إلى أن «المواطن يكره كل من يمدّ يده إلى جيبه لأخذ ماله». و«أخذ المال»، هنا، لا يقصد به الرشوة، وإنما «يستحيل أن يكنّ أيّ مواطن ودّاً لشرطي حرّر محضر ضبط مخالفة بحقه». إلا أن هؤلاء المسؤولين يقرّون، في الوقت نفسه، بأن «هشاشة المؤسسة والأعطاب التي تعانيها، تجعل جسمها لبيساً لكل أنواع الانتقادات».
ويقول مطلعون على أوضاع المؤسسة الأمنية إن المشكلات التي تُثقل كاهل المديرية تنعكس على تصرفات العسكريين والضباط على الأرض. فالرواتب منخفضة، ونظام المكافآت والتحفيز مزاجيّ في معظم الأحيان، وتتحكم به اعتبارات سياسية وطائفية. كما أن الوساطات والتدخلات السياسية والتوازنات المذهبية تؤدي أدواراً بارزة في تموضع الضباط والأفراد من مراكز عملهم. وانطلاقاً مما سبق، بات سلك قوى الأمن، بالنسبة إلى عديدين، مصدراً للكسب السريع عبر تقاضي الرشى.
ويحذّر هؤلاء من أن «الجيل الصاعد من العسكريين المتطوعين ينذر بمصيبة كبرى». فدورات التطويع في السنوات الأخيرة قد تضع المؤسسة على مفترق طرق خطير، إذ إن معظم الداخلين الجدد إلى السلك غير مؤهلين لأن يكونوا في عداد مؤسسة أمنية مطلوب منها الاهتمام بأمن الناس. وفيما يُفترض أن يخضع المتطوع لدورة تدريبية لا تقل عن ستة أشهر، لم يخضع معظم المتطوعين في السنوات الخمس الأخيرة لهذه الدورة، وجرى الاكتفاء بدورة تدريبية لا تتجاوز مدتها شهران في أحسن الأحوال، وهو ما يرى مسؤولون أمنيون أن من شأنه «خفض المناقبية العسكرية»، لافتين الى أن «قلة الدورات التثقيفية لعناصر قوى الأمن تمثّل دوراً رئيسياً في تردّي أوضاعهم».
تجدر الإشارة إلى أن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي أجرت العديد من دورات «الشرطة المجتمعية»، تحت إشراف مدربين أميركيين، لتحسين أداء ضباطها وأفرادها. ومنذ عام 2008، درب الفريق الأميركي ما يزيد على 7600 عنصر من قوى الأمن. لكن، بحسب متابعين لأوضاع المؤسسة، لم يحصل أي تقدم يُذكر في سلوك العسكريين «لأن الخلفية الثقافية لهؤلاء تكاد تكون معدومة».



14 في المئة راضون

أجرت إحدى شركات الإحصاء استبياناً للوقوف على مدى رضى المواطنين عن أداء قوى الأمن. وبعد استفتاء 1200 مواطن، تبيّن أن ما لا يزيد على 14% من المستطلعين أبدوا آراء إيجابية. وعزا مسؤول أمني هذا الاستياء الى التطويع السريع للعناصر من دون إعدادهم إعداداً كافياً، جراء الاضطرار إلى تعبئة الفراغ الأمني إثر إعادة انتشار الجيش وتموضعه جنوباً بعد حرب تموز 2006، علماً بأن إحصاءات أخرى أظهرت أن رضى المواطنين سيزداد بنسبة 60% في حال التزام العناصر بالأخلاقيات والشفافية والحزم، وتطبيق القانون على الجميع.