منذ القدم، كان، ولا يزال، لكل مجتمع طرقه الخاصة في تحديد أصحاب السوابق الجرمية، بغية الاحتراز منهم. في أوروبا، مثلاً، كانوا، قبل قرون، يوشمون جسد المجرم بعلامة فارقة تشير إلى ماضيه الإجرامي، ككيّ كتفه بالنار مع حفر الحرف الأول من نوع الجرم الذي ارتكبه. آنذاك، لم يكن مكان للحديث عن حقوق إنسان، وبالتالي، كان على مرتكب أي جرم، حتى لو تاب لاحقاً واستقام، أن يبقى مدموغاً بالعار في مجتمعه مدى الحياة. أما اليوم، فبات المحكوم عليه قضائياً هناك، بعد انقضاء عقوبته، يخضع لبرامج إعادة تأهيل على أيدي هيئات مختصة، لإعادة دمجه في المجتمع، ويلازمه نظام رعاية خاص، ويوفر له العمل اللائق، فضلاً عن الاستشارات والإرشاد المستمر.
أين لبنان من تلك الإجراءات؟ يمكن البعض أن يعدّ مجرد طرح سؤال كهذا ضرباً من ضروب «البلاهة». إذ لا مجال للمقارنة بين دول باتت تعاقب من يسيء فيها إلى الحيوان، وبين بلد تسأل فيه نائباً، يفترض أنه مسؤول في إحدى اللجان الحقوقية، عن مسألة «السجل العدلي» وكيفية تطوير تشريعاته، فيبدأ بالمناورة الكلامية، ليعود ويقرّ بعدم إلمامه بهذا
الشأن.
كثيرون من اللبنانيين لا يعرفون عن السجل العدلي سوى أنه ورقة زرقاء، مدموغة بعبارة لا حكم عليه/ عليها، يستحصلون عليها عند تقدّمهم إلى وظيفة جديدة، أو لإجراء بعض المعاملات الإدارية. لكن من «تسوّد» سجله يوماً، ولأسباب سخيفة أحياناً، يعرف أن الأمر ينطوي على ظلم في كثير من الأحيان، وأنه لا بد من إعادة النظر بالمرسوم الرقم 4385 الصادر في عام 1972 تحت عنوان «تنظيم السجل العدلي».
سمير، أحد هؤلاء. يقيم خارج لبنان، تقدم أخيراً إلى وظيفة في بلد المهجر تتطلب منه إحضار سجل عدلي من بلده. طلب من قريب له إحضار الوثيقة وإرسالها له عبر البريد. مفاجأة الشاب كانت كبيرة عندما وجد سجله ممهوراً بعبارة «مقاومة رجل أمن».
تذكّر أنه قبل أربع سنوات واجه مشكلة مع شرطي سير، انتهت بمشادة كلامية عنيفة بينهما، وأن الأخير وعده بـ«تكسير رأسه». صدر بعدها حكم قضائي بحق سمير، فنفّذه معتقداً بأن المسألة انتهت عند هذا الحد، ليكتشف بعد سنوات أن ما حصل دوّن في سجله العدلي. طبعاً، لم توافق شركة التوظيف في الخارج على توظيفه، فهو من الذين «يقاومون رجال الأمن»، وبشهادة من دولته.
حبيب هو الآخر ذاق مرارة سجل عدلي لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها. تورّط الشاب مرّة في قضية شراء مسروقات، مع علمه بالأمر. قضى سنتين من عمره خلف قضبان السجن ثمن فعلته. ظن أنه أدّى ما للمجتمع من حق عليه. بعد خمس سنوات على خروجه من السجن، لا يزال هائماً على وجهه بحثاً عمّن يقبل توظيفه، رغم إتقانه اختصاصاً يحمل فيه شهادة، ولكن مع سجل «أسود». يسأل حبيب: «ماذا يفترض بي أن أفعل؟ هل يريدونني أن أسرق مجدداً حتى أعيش؟ ألا توجد طرق لقراءة سلوكي والتأكد من صدقي؟ لماذا لا يمكنني أن أحصل على سجل نظيف إلا بعد سنوات طويلة، تكون خلالها نفسي قد حدثتني مئات المرات بارتكاب المخالفات، التي ربما أسقط في إحداها؟».
يوضح رئيس مكتب السجل العدلي، التابع لقوى الأمن الداخلي، الرائد طرودي القاضي، أن السجل هو «وثيقة تثبت وجود أو عدم وجود أحكام جزائية مبرمة، أو أحكام إعلان الإفلاس أو حكم غيابي بجناية». ويلفت إلى أن البعض يعتقدون بأن محاضر مخالفات السير تدّون في السجل، وهذا غير صحيح، إذ «لا تدّون تدابير الإصلاح ولا الأحكام الصادرة بمقتضى قانون السير». أمّا عن كيفية إعادة «تبييض» السجل، فيشير القاضي في حديث الى «الأخبار» إلى أن قانون العقوبات، إضافة إلى القوانين الأخرى، ينظّم هذا الإجراء تحت عنوان «إعادة الاعتبار»، وذلك وفقاً للآتي: «أن يكون قد انقضى على تنفيذ العقوبة 7 سنوات في الجناية و3 سنوات في
الجنحة».
يُشار إلى أن بعض العقوبات التي تدوّن على السجل العدلي يمكن أي مواطن أن يواجهها في أي يوم، مثل مسألة الغرامة، وبالتالي المسألة ليست حكراً على «المجرمين». فبحسب القانون، كل محكوم عليه بالغرامة الجناحية يُعاد اعتباره خلال 5 سنوات بعد أداء الغرامة. وعلى الهامش، من قال إن القانون يخلو من الفكاهة؟ ها هي المادة 12 من مرسوم التنظيم تنص على أن الأحكام تُشطب عن السجلّ، وبالتالي يُصبح نظيفاً، من دون الانتظار سنوات، وذلك في حال الوفاة!
يبدي الرائد القاضي حماسة لإيضاح ما لديه من معلومات، علماً بأنه لم يمر على تعيينه رئيساً للمكتب أكثر من شهرين. يُظهر تعاطفاً مع بعض الحالات، ولكن «ما باليد حيلة، فنحن نقوم بما علينا وفقاً للقانون، أما الحالات التي يرى البعض أن فيها ظلماً بسبب ما يُدوّن على السجل، فيمكن مراجعة القضاء فيها، لأنها تتعلق بالتشريعات، نحن تنتهي مهمتنا عند هذا الحد». ويوضح أن هناك نوعين من بيانات السجل العدلي، الأول أصفر، تطلبه الجهات الحكومية والرسمية، تدوّن فيه الأحكام المشطوبة وغير المشطوبة. أما الثاني، فلونه أزرق، ويعطى للمواطن بناءً على
طلبه.
من جهته، يشير عضو مجلس نقابة المحامين سابقاً، المحامي ماجد فيّاض، إلى أن خفض مدّة «إعادة الاعتبار» يحتاج إلى تشريع قانوني جديد. ولكن، قبل ذلك، «يجب إنشاء مؤسسات رعاية اجتماعية من قبل الدولة، وهيئة مختصة تكون لديها صلاحية تحديد مدى استفادة كل حالة بعينها من تبييض السجل».
ويلفت فيّاض إلى أن المسألة تقع بين حدّين، إذ «لا يجوز إخفاء التاريخ الجرمي لأي شخص، لأننا بذلك نكون نضرّ بالأكثرية من المواطنين، وفي المقابل يجب عدم غض الطرف عن حالات معينة يمكن أن يكون قد لحق بها ظلم. هذه مسألة لا يمكن حلها إلا من خلال هيئة مختصة، يصبح بموجبها السجل العدلي أكثر تطوراً ووضوحاً، كما هي الحال في الكثير من الدول المتقدمة».



أرقام وألوان

بعض من يذهبون إلى مكاتب السجل العدلي للاستحصال على وثيقة من دون أن يعلموا أن ثمة أحكاماً صادرة في حقهم، يفاجأون بتوقيفهم وإحالتهم على القضاء. بلغ عدد هؤلاء في الأشهر الستة الأولى من العام الجاري 628. ويؤكد الرائد طرودي القاضي أن الحصول على سجل عدلي لم يعد يحتاج إلى أكثر من دقيقتي انتظار، بعدما دخلت المكننة إلى المكتب، لكنه يحض على طلب السجل عبر «ليبان بوست»، بكلفة زهيدة جداً، توفيراً للوقت والجهد. ويشير الى أن المكتب سلّم منذ مطلع العام الجاري وحتى نهاية آب 361429 سجلاً، منها 171252 أنجزها المكتب المركزي، و19859 أنجزت عبر «ليبان بوست». وخلال الفترة نفسها، أنجز 53428 سجلاً أصفر اللون، وهو يعطى حصراً للجهات الرسمية. أما لجهة «إعادة الاعتبار» (تبييض السجل)، المناط بالهيئة الاتهامية لدى القضاء، فتنجز الهيئة في بيروت، مثلاً، نحو 50 طلباً شهرياً، وتأتي نتيجة أغلبها بالموافقة، فيما لا تتعدى نسبة الطلبات المرفوضة 2 في المئة.
يذكر أنه إضافة إلى المكتب المركزي للسجل العدلي في منطقة فرن الشباك، هناك 4 مكاتب فرعية في المحافظات، وهي في طرابلس وزحلة وصيدا والنبطية.