هذه كنيسة الأرمن، وهذا حيّ الأرمن، وجارنا هناك أرمني. دأب اللبنانيون على استخدام مثل هذه العبارة ليميزوا أبناء الطائفة الأرمنية، مع العلم بأن الوجود الأرمني في لبنان بات من أوجه حياته اليومية ووليد تراثه وتاريخه الحديث. وهذا ما يبرز بصورة واضحة في كتاب رافي جرجيان «الكنائس الأرمنية في لبنان» الذي صدر عن دار نشر الجامعة اليسوعية. جرجيان عالم آثار ومهندس معماري، قرر أن يضع خبرته وعلمه في إتمام دراسة واسعة عن الكنائس الأرمنية. دراسة دام العمل عليها ما يقارب عشر سنوات، وبدا واضحاً للكاتب أن التاريخ الذي يرويه في هذه الصفحات لا يقتصر على كنائس وأبنية، بل يروي قصة أبناء طائفة سكنوا هذه الأرض وباتوا جزءاً لا يتجزّأ من تاريخها المعاصر. قد يرى البعض أنّ الوجود الأرمني في لبنان حدث بعد الإبادة التي تعرضوا لها في أرمينيا في بداية القرن الماضي، لكنّ الدراسات الأثرية تظهر عكس ذلك. فالأرمن وصلوا إلى شواطئ لبنان مع الصليبيين الذين تزوج بعض أمرائهم أميرات من أرمينيا، أول دولة مسيحية في العالم، كذلك، كان للحجاج الأرمن طريق إلى القدس يمر دوماً من لبنان.
لكن في القرن الثامن عشر، أعطت السلطنة العثمانية الأرمن الأرثوذكس حقوق الملّة، ما ولّد خلافات كبيرة بينهم وبين الكاثوليك الذين راحوا يغادرون بلادهم ليعثروا في لبنان على ملجأ آمن لهم. وكان الأخوان موراديان (من حلب) أول من قرر بناء كنائس وأديرة في لبنان، فكان دير الكريم في غوسطا عام 1716 بعدما وهب شيوخ آل الخازن أرضاً كبيرة لأبناء الطائفة الملتجئين إليهم. وما هي إلا سنوات قليلة حتى أصبحت كنيسة المخلص في دير غوسطا مركز بطريرك الأرمن الكاثوليك، وكانت الكنيسة المارونية تقدم لهم الدعم الكافي للسماح لهم بممارسة طقوسهم الدينية في مختلف الكنائس المارونية. وفي عام 1749 وهب آل الخازن وآل قبلان تلة بزمار للأرمن الكاثوليك، حيث بنوا ديراً كبيراً. وأصبحت أديرة لبنان مركز سكن لبطاركة الأرمن الكاثوليك، الذين يدفنون فيها. وبدأت حركة سفر شبه دائمة من أرمينيا إلى لبنان، وبالعكس. لذا، عندما بدأت المجازر عام 1895 هربت مئات العائلات إلى لبنان، وبدأت تستقر في مدن الساحل. ولمّا حدثت الإبادة الجماعية للأرمن خلال الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، هرب مئات الآلاف إلى لبنان وسوريا لإنقاذ حياتهم.
يتحدث جرجيان في كتابه عن حركة النزوح هذه ويؤرخها بصور، فقبل الإبادة كانت أرمينيا تُعد مليوني شخص، لم ينجُ منهم إلا 150 ألفاً. لكن مع نهاية الحرب العالمية الأولى، قرر الحاكم الفرنسي إعادة اللاجئين إلى بلادهم بإشراف الجيش الفرنسي. وأعطى اتفاق أنقرة لمصطفى كمال أتاتورك قرار الحكم على أرمينيا، فأصاب الذعر نفوس السكان الذين هربوا مجدداً إلى سوريا ولبنان ليستقروا هناك. عام 1923، كان لبنان يضم 80 ألف أرمني يعيشون بصورة مركزة في بيروت في خيم نصبها لهم الجيش الفرنسي من منطقة المدور إلى الكرنتينا. ويشرح جرجيان في كتابه كيف كانت المستنقعات تغطي المنطقة، ما ولّد أمراضاً كثيرة، فما كان من اللاجئين إلا العمل على تجفيفها واستبدال الخيم بمنازل من الخشب و«التنك». عام 1925، مثّل الأرمن 67% من سكان بيروت، وكانوا من حرفييها وتجارها وبدأوا بشراء الأراضي في منطقة الأشرفية وبرج حمود، فبنوا أولاً الكنائس ثم المنازل والأحياء التي أعطوها أسماء القرى والمدن الأرمنية التي نزحوا منها. نزوح يرفضون أن ينسوه حتى بعد 90 عاماً. لا يقتصر كتاب جرجيان على تاريخ طائفة واحدة في لبنان، بل يشمل تأسيس الطوائف الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية وتوسعها. ولأنّ شكل الكنيسة ليس هندسياً فحسب، بل ديني أيضاً، وهو مرتبط بصورة مباشرة ببناء الكنائس في أرمينيا، قدّم الكاتب نبذة عن طرق البناء المعتمدة في البلد الأم، مع الاندماج في المحيط والمحافظة على التراث الأرمني.
وبما أنّ الطائفة الأرمنية تحافظ على عاداتها وتقاليدها، «عمّد» الكتاب بالنبيذ الأحمر في المركز الثقافي في عنجر. هكذا، يوقع الإكليروس الأرمني الكتب التي يعاملها كالمولود، ويحتفظ الكاتب بهذه النسخة. هذه الاحتفالات هي لكتاب هو الأول من نوعه في لبنان، كتاب يقدم في آن واحد الكنائس الأرمنية لأبناء الطائفة والمهتمين بهذا التاريخ عبر استخدام اللغة الفرنسية للتواصل. ويمكن عدّه دليلاً للكنائس ومرجعاً عن تاريخ الأرمن في لبنان.