تبدأ السنة القضائية الجديدة في ظلّ نقص كبير في عدد المساعدين القضائيين، وهو نقصٌ يؤثّر، حكماً، في سير العدالة بسبب تراكم الملفّات وتعطيل الدعاوى القائمة، ولا سيما مع استمرار تأخر إعلان نتائج مباراة المساعدين القضائيين التي أُجريت أواخر عام 2010. والتأخير الحاصل ينعكس تشاؤماً في أوساط من أجروا الامتحانات، باعتبار أن التجربة السابقة لم تكن مشجّعة أبداً. فقد سبق لمعظم هؤلاء أن خضعوا لاختبارات دورة المساعدين القضائيين التي ألغاها وزير العدل السابق ابراهيم نجار بذريعة انعدام التوازن الطائفي، على نحو مخالف للقانون ومفاجئ، غير آبهٍ بأشهر الانتظار التي انقضت من حياة مئات الأشخاص هدراً.
الوضع في الدورة الثانية يبدو مختلفاً، بحسب تأكيدات أكثر من مسؤول قضائي، لكن القلق يبقى سيد الموقف. فرغم المعلومات المتوافرة لدى المرشحين، التي تؤكد أن اللجان الفاحصة أنجزت النتائج وجدولتها بحسب معدل العلامات على نحو لا ينقص معه سوى إعلانها، ورغم ما تسرّب من تطمينات، يستشعر أصحاب القضية خطراً محدقاً يتهدد دورة المساعدين القضائيين. فالدافع الذي أدى إلى إلغاء الدورة الأولى حاضرٌ بقوة في هذه الدورة أيضاً، إذ إن معظم المتقدمين إلى الاختبارات كانوا من المسلمين. والحال نفسها تنسحب على نتائج الناجحين، إذ علمت «الأخبار» أن غالبيتهم الساحقة من المسلمين أيضاً. كل ذلك يُسهم في رفع منسوب القلق والتوتر لدى منتظري النتائج، ولا سيما أن أعداد المتقدمين ناهزت الـ 4000 شخص، فيما لا يتخطى العدد المطلوب الـ 300.
هذا القلق لا يرى له مسؤول قضائي رفيع في وزارة العدل مبرراً. وهو يُطمئن منتظري النتائج إلى عدم وجود مشكلة في إعلانها، عازياً تأخرها إلى انتظار موافقة مجلس الوزراء على قرار زيادة أعداد الذين سيجري توظيفهم من الناجحين في الدورة الأخيرة، بعدما وُضع مشروع القرار على جدول اجتماعات الحكومة، وخصوصاً أن وزارة العدل بحاجة ماسة إلى توظيف مساعدين قضائيين. ويوضح المسؤول أن العدليات بحاجة إلى 1400 موظف لملء الشواغر، مشيراً إلى أن موافقة مجلس الوزراء على توظيف نصف هذا العدد من شأنها أن تحل جزءاً كبيراً من المشكلة، على قاعدة أن «الكحل أحلى من العمى».
أزمة الموظفين في العدليات لا تنتهي عند هذا الحد. والمسألة لا تُحسم بمجرّد إعلان نتائج الدورة، إذ إن المشكلة أكبر من ذلك بكثير. فتقشّف الدولة خفضاً للإنفاق، تُرجم امتناعاً عن قبول موظفين جدد في العدلية منذ 16 عاماً، ما أحدث ترهّلاً في الجسم الوظيفي في المؤسسات القضائية. وقد شهدت الأعوام الـ 16 المنصرمة تقاعد موظفين كُثر، واستقالة البعض وموت آخرين على نحو يكاد أن يؤدي إلى إفراغ العدلية، إذ لامس عدد الشواغر في ملاك المساعدين القضائيين نحو 1200 موظف، علماً أن مجموع الملاك محددٌ بـ 1855 موظفاً، يتوزعون بين رؤساء أقلام وكتبة ومباشرين. (رئيس القلم عادة ما يكون مجازاً، فيما يُفترض بالمباشر أن يكون ملمّاً بالكتابة والقراءة، ليتولى تبليغات موعد الجلسات والإنذارات والأحكام).
ويعود تاريخ آخر دورة أُجريت لقبول موظفين في العدلية إلى عام 1996 عندما دخلت الدفعة الأخيرة من المباشرين القضائيين. أما آخر كاتب أصيل فوطئت قدماه باحة الخطى الضائعة في قصر عدل بيروت عام 1994، علماً أن ضغوط الملفات القضائية آنذاك لا تقارن بما هي عليه اليوم. ومع تناقص شاغلي الوظائف، بفعل الزمن، تبادل الموظفون الأدوار في ما بينهم، إذ إن كل موظف بات يقوم بواجبات أكثر من وظيفة. فصار المباشر القضائي يكلف مهمّات كاتب إلى جانب مهماته، لكنه يتقاضى راتبه على أساس الوظيفة الأصلية فقط. وقد خلق ذلك مجموعة كبيرة من المباشرين المكلفين بمهمات الكتبة، الذين صاروا يطمحون إلى تثبيتهم في وظيفة كاتب، أسوة بنظرائهم الذين ثُبّتوا قبل نحو سنتين. كذلك كُلّف كتبة بمهمات رؤساء أقلام قبل أن يجري تثبيتهم أيضاً. هذا كله أدّى الى فوضى أطاحت معايير النزاهة والكفاءة والأقدمية، لتحل محلها الواسطة والمحسوبية. وأحياناً كانت الذريعة الطائفية السلاح الأمضى في هذه الفوضى. فإذا كان رئيس القلم شيعياً، عنى ذلك أنه يجب أن يُستبدل بآخر شيعي، وإلا فإن مشكلة كبيرة ستنشأ. والأمر نفسه ينسحب على بقية الطوائف، كما أحدث ذلك توزيعاً غير عادل للموظفين على الأقلام. وأسهم في نشوء ممارسات غير مقبولة. فبات موظفون يُنقلون من مكان إلى آخر من دون أن يحضر مكانهم أحد، وفرغت مكاتب في مقابل تضخم العدد في مكاتب أخرى، حيث إمكان تقاضي الرشى و«لحس الأصبع» أكبر.



أباطرة العدلية

يصف أحد القضاة بعض موظفي العدلية بـ «الأباطرة». فيشير إلى أن الدخل اليومي لهؤلاء لا يقل عن 500 دولار أميركي و«على عينك يا تاجر»، من دون أن ينفي أن هناك موظفين «أوادم». ويلفت إلى أن انخفاض الراتب الذي يتقاضاه الموظفون من جهة، وغياب سؤال «من أين لك هذا؟» وانعدام الرقابة المباشرة من جهة أخرى، تؤدي جميعها إلى تفاقم الفساد السائد في أروقة العدلية، إذ إن بعض هؤلاء الموظفين، بحسب القاضي المذكور، لم يعودوا يكتفون بـ «الإكرامية» التي قد يدفعها المواطن عن طيبة خاطر لتمرير معاملته، بل تجاوزوا ذلك إلى حد حجز المعاملة وفرض «تسعيرة» لإنجازها.



ملفات متراكمة ولا مكننة

في ظل الفيتو المفروض على دخول الموظفين إلى العدلية، يستغرب متابعون لأوضاع قصور العدل إهمال المسؤولين لمسألة التجهيزات اللوجستية. فمشهد الملفات المتراكمة في زوايا المكاتب يثير النفور بمجرد رؤيتها، كما أن العثور على ملف محدد بين هذه الملفات قد يتطلب أياماً بلياليها.
ورغم ذلك، لم يُبد القيمون على القضاء اهتماماً باعتماد المكننة. ويؤكد هؤلاء أن المطلوب ليس مستحيلاً، أو بحاجة إلى سحر ساحر، إذ إن مكننة جزئية لتنظيم الملفات لتسيير أمور المحاكم ستكون كافية، كما يلفت هؤلاء إلى أنه إذا مُلئ الملاك، فلن تكون لديهم مكاتب للجلوس فيها. فضيق القصر على شاغليه أدى إلى تقاسم عشرات القضاة لمكاتبهم مع قضاة آخرين. أما المكاتب الحالية، فإن تزويدها بأجهزة التكييف «يكاد يكون أصعب من بناء مفاعل نووي لتخصيب اليورانيوم في لبنان»!