لاحظ المارة نموّ أعشاب طويلة في الملعب، قرب «نقطة الجزاء» سابقاً. حتى التراب ــــ الذي كان مطعّماً بالحصى الصغيرة ــــ صار محدوداً نظرياً. انفلشت الأعشاب البرية فوق مساحات غير قليلة، غير آبهة بصورة المكان القديمة. لا شيء يوحي بأنها «الإصلاحات» الموعودة. هذه الأعشاب لا تشبه الـ«gazon» الذي «يفرش» ملاعب كرة القدم المحترمة. ساءت أحوال الملعب حتى صار أشبه بالخربة. يئس الجميع منه، حتى إن كثيرين من أهل المنطقة تعبوا من السؤال عن الجديد فيه. بقيت البوابة الصدئة القديمة على حالها، مع إضافة وحيدة: إغلاقها نهائياً. كانت قد أغلقت قبل عامين حين بدأت بلدية المريجة، بتمويل من الصندوق الكويتي، جرف الملعب لإقامة «صرح رياضي». وفجأة توقف العمل. انتهى الحفر الذي بدأ قبل عام. مات الملعب البلدي القريب من المخفر في المريجة.قبل عامين أو أكثر بقليل، كان الأطفال يأتون حاملين كراتهم، ويتسلق بعضهم أسوار الملعب من الجهة الشرقية إذا كانت البوابات مغلقة. وكان «ملعب المريجة» مميزاً بالنسبة إليهم، لأن المرمى فيه كان مجهّزاً بشبكة بيضاء. شبكة ممزقة لكنها أفضل من لا شيء. قبل عامين «فُجعوا» بإغلاق الملعب. مثّل الأمر «ضربة قاضية» لملاعب الرمل الشعبية التي انقرضت لحساب الملاعب التجارية. صحيح أن الحصى كانت تؤلم الأطفال إذا علقت في أحذيتهم، لكنها بالنسبة إلى كثيرين منهم كانت «أحسن من بلاش». ومع انطلاق المشروع البلدي، وبدء أعمال الحفر، اضمحل كلس «منتصف الملعب» في غبار المرحلة الجديدة. وهكذا، يكون الملعب الثالث في مربع لا تتجاوز مساحته 100 متر مربع قد مُحي من الذاكرة، بعد افتتاح الوقف الجعفري مدرسة في ما كان يعرف بـ«ملعب مارون الراس»، وانتقال نادي البرج الرياضي إلى التدرّب في مكانٍ آخر.
لم ينتج من الحفر ملعب. توقف كل شيء بعد اكتشاف مقبرة تحت الملعب. لا أحد يعرف بالضبط متى طمرت المقبرة، وكم مرة حدث ذلك. لكن الجميع يمكن أن يفهم كيف تنطمر الذاكرة. فوفقاً لمعطيات حسن عمار، عضو المجلس البلدي في برج البراجنة، والمتابع لشؤون الوقف الإسلامي الجعفري، فإن هذه المقابر تعود إلى عام 757 ميلادية، أي قبل أكثر من ألف عام. يعني ذلك أنها «أثرية» عملياً، خصوصاً أنها تعود إلى «مقاتلين في الجيش العباسي». وإذا صحّت معطيات عمار، فإن تلك القبور الطافية تحت الملعب تعود إلى جثث المحاربين في الجيش الإسلامي الذي كانت إحدى قواعده موجودة في ما يعرف اليوم بمنطقة المريجة، وقد أصيبوا بوباء الطاعون حينها، ما أدى إلى تحويل القاعدة العسكرية إلى مقبرة جماعية. حتى اللحظة الأخيرة التي اتخذ فيها القرار النهائي، من المراجع المختصة، بوقف الحفر، فإن عدد القبور المكتشفة قارب الخمسين.
إذاً، قبل الملعب الذي اشترته بلدية المريجة من الوقف الجعفري، كانت هناك القاعدة الحربية التي ينطلق منها الجيش العباسي لمواجهة الصليبيين في منطقة الأوزاعي. انقرضت «البورة» القديمة التي كانت تحيط بالمقبرة، وتدل عليها، كذلك طُمس شاهد قبر زوجة الأمير بشير الثاني في المريجة، في مراحل تاريخية مثقوبة. طبعاً، هناك روايات أخرى، إحداها تبدأ من المريجة، قرب المعلب، وتنتهي في «بئر العبد» القرن السابع عشر. ويُحكى أن موكب الأمير فخر الدين كان ماراً في المنطقة أثناء مرور جنازة، وفيما التزم «المير» بالتقاليد آنذاك، فنزل عن فرسه احتراماً للموتى، لم يلتزم أحد فرسانه في آخر الموكب. كان رجلاً أسود البشرة، وكانوا يطلقون عليه حينها لقب «العبد». ويُحكى أن الفارس الأسود ضرب المرأة التي طلبت منه التوقف احتراماً للجنازة، فأتت ببندقية وقتلته. ورموا الفارس الميت في بئر، وصار مذّاك يعرف باسم «بئر العبد».
أما الموتى النائمون في المدفن الذي صار ملعباً، منتصف الملعب الفائت، فهم «ضحايا الطاعون، ولا علاقة لهم بحادثة فخر الدين الشهيرة»، كما يجزم عمار.