تتذمر أم حسين كلما مرّت سيارة من أمام منزلها المحاذي للطريق الرئيسية لبلدتها قعقعية الصنوبر (قضاء الزهراني). تتمتم بعبارات غاضبة تكيلها للبلدية التي تنفذ مشروع مدّ شبكة للصرف الصحي. الأشغال والحفريات الجارية منذ أسابيع، تثير غباراً في كل الأنحاء، وضيقاً في الطريق التي تمثّل شريان وصل على خط القرى. «من وين طلعلنا هالمشروع؟»، تتساءل أم حسين، التي تهمها سلامة حوض الأزهار والعريشة، اللذين يفترشان مدخل الدار، أكثر مما تكترث لإنماء القرية الصغيرة. تذكير سريع من ابنها بروائح الجوَر الصحية في الحي التي «تفطسهم» كل ليلة، كان كفيلاً بتهدئة غضبها.هي المرة الأولى التي يهبّ فيها غبار الشغل على قعقعية الصنوبر. في عهد البلدية السابقة، التي كانت الأولى، نُفّذت حفريات جزئية لمدّ شبكات هواتف وصرف صحي. حينها، وصل تذمّر المواطنين إلى حدّ رشق المجلس البلدي السابق باتهامات، مثل ممارسة الاستنسابية في الشغل لحي دون آخر، فيما عدا ذلك، لم يسجّل أيّ مشروع في البلدة التي لم تزد موازنتها طوال عهد بلديتها السابقة عن 500 مليون ليرة خلال ست سنوات. مع ذلك، لم يُصرف كامل المبلغ رغم أنها تفتقر إلى مستوصف وحديقة وطرقات معبدة وحيطان دعم... فمن أين تبدأ البلدية الجديدة؟
مسبقاً يعلن الرئيس قاسم صالح أن عينه بصيرة بالحاجات الكبيرة ويده قصيرة عن تلبيتها. مما بقي من الموازنة السابقة، تمكن من إنجاز مشروع الصرف الصحي الذي لا قدرة له على إكماله. هنا، لا «قوات يونيفيل» تبسط يديها لدعم مشاريع التنمية، ولا هيئات دولية تمنح الهبات لرفع مستوى المعيشة. هنا، على كل بلدية أن تقلع شوكها بيدها في ظل شحّ موارد الدولة.
لكن إذا ما توافر المال، من أين تبدأ التنمية وكيف يحدّد رئيس البلدية أولويات المشاريع؟ الحلّ في رأسه ورؤوس أعضاء مجلسه الثمانية. لا يرى المهندس أن ذلك تجاوز لآراء الناس، واختصار لرغباتهم، بل يقرّ بأنه يجب توافر جهاز متخصص في كل بلدية بتنفيذ استطلاعات رأي واستقصاء بين الناس بشأن كل مشروع أو قرار تنوي البلدية الإقدام عليه. وفي ظلّ ضعف الإمكانات، يجد صالح أنه وأعضاء المجلس قادرون على أن يؤدوا هذا الدور، وخصوصاً أنهم جميعهم مقيمون على نحو دائم في البلدة ويعرفون كل شاردة وواردة. وهنا يشار إلى استمزاج آراء بعض رؤساء البلديات الذين يزورونها في المناسبات وأيام العطل لمشاريع قد لا يستخدمها الأهالي. والشواهد كثيرة في قضاء صور على النوادي الشبابية والمراكز الثقافية ومصانع التعليب والمونة والتعاونيات المهجورة والمقفلة منذ ما بعد افتتاحها بفترة وجيزة.
يرى صالح أن دور الناس ينتهي بانتهاء العملية الانتخابية، لأن عليهم حينها أن يختاروا نخبة الأشخاص الموثوق بهم في تقرير صالح البلدة من مشاريع وتوجهات وقرارات. وفي هذا الإطار، يشير إلى أنه كتب صيغة مشروعين، أوّلهما ترميم المدرسة الرسمية، وثانيهما ترميم وتجميل عين مياه أثرية ومحيطها. لم يستشر الناس مباشرةً قبيل إيداعهما لدى المؤسسات المعنية طلباً للتمويل، لكنه يدرك من دراسته لحاجات البلدة «أنهما مفيدان وإن لم يكن على المدى القريب».
وإذا كان الاختلاف على مشروع ما، قد يسوّى بـ«المَونة» وبزيارة إقناع من جانب المجلس البلدي لبيوت المعترضين واحداً واحداً في قرية قعقعية الصنوبر، فهل هذا الأسلوب يجد مكاناً له في مدينة مثل صور يقيم فيها ويقصدها ويعمل فيها عشرات الآلاف؟
منذ أشهر، تبدو المدينة ورشة لا تهدأ. الأشغال والحفريات حتى وقت قصير، كانت تلاحق المواطنين أينما توجهوا في إطار تنفيذ مراحل مشروع الإرث الثقافي الجاري منذ عام 2003. هنا لا يبدو التذمر كافياً للاحتجاج على أحد المشاريع التي تفوق في حجمها ونوعيتها ما قد ينفّذ في القعقعية. لذا، فقد شهد مقر البلدية عشرات الاعتصامات والعرائض والاحتجاجات ضد مشاريع تنفذها أو تشرف عليها تكلّف مئات ملايين الدولارات.
لا يجد سامي رزق حاجة إلى تبادل النقاش مع موفد وحدة الدعم البلدي لصور في مجلس الإنماء والإعمار، بشأن مشروع تأهيل وتطوير ميناء الصيادين. الموفد حضر مرات عدة في الأيام الأخيرة لرصد ملاحظات الصيادين على سير الأشغال، ولاستشارتهم في كيفية تنفيذها وما إذا كانوا يفضلون إجراء تعديلات على توزيع غرف الصيادين وشكل النقابة والكافيتيريا ومشغل صيانة القوارب. يؤكد الموفد أن ملاحظاتهم تؤخذ بالحسبان، إلا أن رزق، نائب رئيس نقابة الصيادين، لا يصدقه بل يذكره بأن «المشروع قد نُفّذ للتو وبات أمراً واقعاً ولم يعد من داعٍ لاستشارتنا الآن». الرئيس نفسه، خليل طه، ومن ورائه الصيادون، يجمعون على أن الأوان قد فات للوقوف عند رأيهم في تأهيل مينائهم. منذ أربع سنوات، جرت دعوتهم إلى لقاء وحيد لتبادل وجهات النظر بشأن خطة المشروع وتفاصيله. أبدى الصيادون حينها ملاحظاتهم المبنية على خبرة طويلة وإدراك لما يحتاجون إليه وما لا يستخدمونه. طه ورزق يؤكدان أن القيّمين لم يأخذوا بملاحظاتهم فحسب، بل اعتمدوا أيضاً ما هو عكسها تماماً، علما بأن المشروع ذاته، أطلق بناءً على رغبة الصيادين في تطوير واقعهم، وبدلاً من حل المشكلات المزمنة، فإنه خلق معضلات أكبر وأخطر قد تصل إلى «التسبّب بحساسيات وبفتنة طائفية» بحسب الصيادين. والسبب في التوزيع، فقد أُنشئت 34 غرفة لنحو مئتي صياد مسجّل، فيما الحاجة تقتضي إنشاء أكثر من 81 غرفة. الاعتراضات تطاول أيضاً مساحة الغرف وشكلها ورسو القوارب وصيانتها، إلا أن «صلاحيتها انتهت» بحسب رزق لأن «مشروع الأمر الواقع» كما يصفه قد أنجز.
ومن الميناء إلى الشوارع. اعترض التجار والمواطنون على توسيع الأرصفة وتضييق الشوارع التي حوّل السير فيها باتجاه واحد ما خلق زحمة إضافية، وخصوصاً في ظلّ قلة نجاح حملة تنظيم السير التي أطلقتها البلدية عبر حملة إعلانية لم ترفق بندوات توعية وإرشاد بين المواطنين. الحال ذاتها، تنطبق على مشروع تأهيل السوق الشعبي وساحة البوابة. فقد قضت الخطة الأولى باستبعاد أصحاب محال اللحوم والدجاج وبسطات الخضر. ثارت ثائرة المستبعدين، ما دفع بالبلدية ومموّلي المشروع إلى الرضوخ لمطالبهم وضمّهم إلى حضن السوق الجديد. الحال لم تستو، بل ظهرت اعتراضات جديدة على آلية التنفيذ، ما أدى إلى تعطيل إنشاء السوق المؤقت وانتقال شاغلي السوق الحالي إليه تمهيداً لتأهيله. حالياً، استقرت الخلافات على شكل السوق الجديد والانتقال إليه وبنود عقود الإشغال التي سيوقعها هؤلاء مع البلدية: مدة الإيجار وبدلاته وآلية استخدامه.
تعنّت الفئة المستهدفة على رفضها للمشروع من جهة، وإصرار الجهات الأجنبية المموّلة على استرضائهم، أديا إلى إطالة مدة تنفيذ المشاريع وتكبد تكاليف إضافية، بسبب إجراء تعديلات على دراساتها الأولية. البنك الدولي، المموّل الرئيسي للإرث الثقافي، استحدث لاحقاً أسلوب عمل يسمى «public hearing» (جلسات استماع عامة). الاستماع الى الناس مورس بداية مع أصحاب السوق الشعبي، الذين عقدت معهم عدة جلسات حوار لاستشارتهم في كلّ تفصيل، بل بعد وضع الدراسات وبدء التنفيذ ميدانياً. وحالياً يمارس مع الصيادين أيضاً بعد فوات الأوان، بحسب الكثيرين. إزاء كل تلك الاعتراضات، تعتد البلدية بالمستقبل المتطور الذي ينتظر صور فور إنجاز تلك المشاريع البعيدة المدى، المبنية على تخطيط استراتيجي سياحي المنحى، والمستقاة من التجارب الغربية.