مذياع سجن رومية صدح مساء أمس... «وزير الداخلية يبلغكم أن السنة السجنية ستصبح 9 أشهر. يعدكم بأنه لن يقبل بغير ذلك فاطمئنوا، ولكم منه سلام».تُرى، هل يصمد هذا النداء أمام ذبح السجين محمد زعيتر نفسه ليل أول من أمس؟ وهل يعلم بعض النواب، وخصوصاً أولئك الذين رفضوا إقرار قانون خفض السنة السجنية، أن ثمة «نوعاً» من البشر يذبح نفسه إذا شعر بالذُّل؟ وهل يعلمون أن سجيناً آخر أشعل النار في جسده، ومعه شابان آخران جعلا من جسديهما لوحة لحفر الألم بشفرات الحلاقة؟ يحدث ذلك في سجن رومية. في تلك البيئة المجهولة ــــ المعلومة. هناك، في رومية، مجتمع يحتاج نائب، ببزة رسمية أو من دونها، إلى ألف سنة ليفهم روابطه الاجتماعية... ولن يفهم.
رواية السجناء تفيد بأن محمد زعيتر أضرب عن الطعام، ومعه مجموعة كبيرة من السجناء، بسبب إسقاط مجلس النواب اقتراح قانون خفض السنة السجنية. وقع خلاف بينه وبين سجين آخر، نُقل على أثره إلى المبنى «و» بغية تأديبه. السجناء قالوا إن طريقة نقله كانت مهينة، إذ ضُرب بالعصيّ على مرأى من الجميع، ومعه عدد من السجناء. وفي المبنى «و»، حصل «شيء ما غير مفهوم» دفع بزعيتر إلى قطع وريده بتمرير شفرة على عنقه.
أما رواية قوى الأمن الداخلي فجاءت في بيان أمس، وفيها أن السجناء محمد زعيتر وم. ز. وح. ج. أقدموا على ضرب نزيل غرفتهم ح. ن. ما استدعى نقله إلى المستشفى. فيما نُقل السجناء الثلاثة تأديبياً إلى المبنى «و» ووُضِعوا في غرفة واحدة. وهناك أقدم السجين محمد زعيتر على تشطيب يده، وعولج من قبل الطبيب المناوب. ولكن فور عودته إلى الغرفة أقدم مع رفيقيه على إشعال فرش أسرتهم، فنقلوا إلى المركز الطبي وهم بحالة الوعي الكامل ويسيرون على أقدامهم، ثم نقلوا إلى مستشفى ضهر الباشق لاستكمال المعالجة. لكن السجين زعيتر ما لبث أن توفي. وحدد الطبيب الشرعي الذي كلفه ذوو المتوفى بأن الوفاة ناتجة من تنشق أبخرة نتيجة حريق. فيما وضع السجينان الآخران مستقر. وقد أكد البيان أنه لا علاقة للضابط الذي حمّله بعض ذوي زعيتر المسؤولية بالأمر، لافتاً الى أن الضابط المعني لا علاقة له على الإطلاق بمبنى المحكومين أو بالمبنى «و» حيث نقلوا إليه، لأنه يخدم في مبنى آخر.
مهما تكن حقيقة ما وقع، إلا أن الحقيقة الثابتة أن سجيناً شاباً قد مات في سجن «لا تستطيع الحيوانات والبهائم أن تتحمل الظروف داخله»، بحسب وزير الداخلية مروان شربل. ورفض شربل، في حديث الى «الأخبار»، تحميل مسؤولية ما حصل لحراس السجن. وقال: «ما حصل في مجلس النواب من إسقاط لاقتراح القانون ما كان يجب أن يحصل. يومها همست في أذن الرئيس نبيه بري بأن معلوماتنا تفيد بأن انفجاراً سيقع في السجون إذا لم يقر الاقتراح، لأن السجناء موعودون به». وأضاف إنه ينوي الطلب إلى النواب في جلسة الأربعاء المقبل القيام بزيارة جماعية لسجن رومية «لنرى كم يمكن أن يصمدوا في أماكن لا تصلح لعيش البشر. عندها ربما يطلبون خفض سنة السجن سنة كاملة لا جعلها 9 أشهر فقط». الوزير الذي يدرك أن قنبلة السجون هي اليوم في حضنه، يتعهّد «ألا يمر شهر رمضان إلا وتكون السنة السجنية قد خفضت، وهذا الأربعاء سأراعي في كلمتي بعض النواب، وخصوصاً الحساسين منهم، لكن كلمتي الثانية الأربعاء التالي، إن لم يلبَّ الأمر، فستكون حادة جداً وسأبقى على موقفي مهما كلفني الأمر». وتساءل شربل: «أين القضاة؟ هل يزورون السجون كما يتوجب عليهم؟ أين جمعيات حقوق الإنسان والمنظمات المعنية؟ يجب أن يعلم الجميع أن السجين إنسان مسكين وضعيف، وهو ليس الشخص الذي نستقوي عليه، وقبل ذلك كله يجب أن يكون التعامل معه باحترام حتى يشعر بإنسانيته». وسأل منفعلاً: «فليقل لي القضاة والمعنيون: كيف أضع عيني في عين سجين رأس الحكم في قضيته لا يتجاوز 3 سنوات، فيما هو خلف القضبان منذ أكثر من 5 سنوات! هذا ظلم لا يتحمله أحد. من يرد أن يفهم ما أقول فعليه زيارة السجون، وخصوصاً سجون الأطراف، مثل سجن القبة في طرابلس الذي كان اسطبلاً للفرنسيين أيام الانتداب. ليذهبوا إلى سجن بعبدا للنساء أو إلى سجن النبطية. من لا يعرف عما أتكلم، فما عليه إلا الصمت عند الحديث عن معاناة السجناء. على البعض أن يجرب أن يأكل صحناً من طعام السجناء ليفهم قليلاً».
الى ذلك، تواصلت تحركات أهالي السجناء بالتفاعل، وخصوصاً بعد شيوع خبر مقتل السجين زعيتر، فاعتصم عدد منهم أمام السرايا الحكومية، ظهر أمس، بحضور سفير حقوق الإنسان علي عقيل خليل ورئيس لجنة الأهالي خضر ضاهر. وجاء في بيان وزعه الأهالي بعد الاعتصام، توجهوا فيه الى المسؤولين في الدولة: «أين خطاباتكم؟ أين الوعود التي أقسمتم عليها للسجناء بإصدار عفو عام وخفض السنة السجنية. لقد ذهبت وذهبت معها ضمائركم». وأضاف البيان: «بحكمكم هذا، أنتم من يصنع من السجناء مجرمين وسفاحين وتجار مخدرات ومتعاطين. نحن نتوجه إلى كل المسؤولين الروحيين من جميع الطوائف بالتوجه لزيارة معتقل رومية المركزي، بغية تقويم الوضع الاجتماعي والمعيشي».
من جهته، أوضح مسؤول أمني معني بملف السجون، أن بعض وسائل الإعلام «ضخمت خبر مقتل الشاب داخل السجن، وقالت إن الحراس هم من قتلوه، وهذا غير صحيح، هو من بادر إلى فعل ذلك ومن كانوا معه في الغرفة الكائنة في مبنى «و» بعد الشغب الذي أحدثوه قبل يومين».
وأبدى المسؤول تأثره، أولاً لمقتل شاب وثانياً «للظروف التي تجعل من رجل الأمن كبش محرقة، فيصبح هو المسؤول عن تقصير النواب والمسؤولين في الدولة». وعن تطرق بعض وسائل الإعلام إلى ذكر اسم رجل أمن على أنه هو سبب ما حصل، نفى المسؤول الأمني ذلك تماماً.
هكذا، عاد ملف السجون اللبنانية، الملف المفخخ دائماً، إلى الضوء من جديد، لكن هذه المرة من بوابة مجلس النواب الذي نُكث فيه الوعد الذي أعطي للسجناء قبل أشهر. يتقلب السجن اليوم فوق الجمر، وإذا كان من سبب لاستمرار الأمور منضبطة نسبياً، حتى الآن، فمرده الى الجهود التي تبذلها الأطراف السياسية لتجنب الانفجار الكبير، وهي الجهود التي كانت في ذروتها أمس، والتي يؤمل أن تهدئ الأمور بانتظار جديد ما من مجلس النواب.