صيدا، صيدون مدينة لطالما كتب وقيل عنها إنها من المدن التاريخية الأساسية لهذه البلاد الساحلية. لكن المدينة، التي لم تعرف الحفريات الأثرية إلا أخيراً، لطالما افتقدت التأكيد الحسي لهذه النظريات. وقد بدأت الحفريات التي يقوم بها فريق بعثة المتحف البريطاني والمديرية العامة للآثار بإعطاء صورة أخرى للمدينة. فالدراسات أبرزت وجه المدينة وهويتها بعد 13 سنة من العمل ومن الاكتشافات الأثرية المهمة. وبات عمل فريق المتحف البريطاني في صيدا يمثل نقطة وصل أساسية لفهم تطور الحياة على الساحل، وخصوصاً أن المكتشفات الأثرية تعود إلى فترتين من الزمن يعتبرهما اللبنانيون إشكاليتين. ولطالما ميّزوا بينهما على أساس أن شعباً مختلفاً عايش كل واحدة منهما. ولكن حفريات صيدا (وغيرها من المدن اللبنانية) تؤكد عكس ذلك. فقد عثر علماء الآثار في الموقع على بقايا معابد ومقابر واهراءات بعضها يعود الى الفترة الكنعانية (العصر البرونزي) والآخر إلى الفترة الفينيقية (العصر الحديدي). وتشرح عالمة الآثار ومديرة الحفرية الدكتورة كلود ضومط سرحال «أن الاستعمال الدائم لمبنى المعبد الذي يصل طول جدرانه إلى 45 متراً، يبرز على نحو قاطع أن استخدام المبنى لم يتغير في الحقبتين. الجدران نفسها يبنى عليها من جديد بالطريقة نفسها، وليس هناك من فرق يسمح بالقول إن شعبين يتميزان بطرق هندسية مختلفة استعملا هذا المبنى. بل عكس ذلك تماماً، فإن هذا التلاحم يؤكد أن شعباً واحداً استعمل المبنى على فترات زمنية طويلة، قسّمها علماء الآثار الى مرحلتين تاريخيتين أساسيتين. التسميات والتعريفات السياسية للفترتين الكنعانية والفينيقية لا تمت الى الواقع العلمي بصلة، وحفريات صيدا هي أحد الشواهد على ذلك». وتؤكد سرحال أن موقع الحفرية في المنطقة المعروفة بموقع الفرير (بالقرب من القلعة البرية) لم يعرف الحياة اليومية للسكان، بل يعتبر المركز الديني للمدينة. هنا، على هذه التلة، بُنيت المعابد وأقيمت الطقوس. وهنا، بالقرب من المعابد، شيدت اهراءات القمح والشعير. مخازن تعرضت تاريخياً لحريق هائل أتلف ما في داخلها، فتركت الغرف حتى وصل إليها علماء الآثار ليفتحوها ويكتشفوا في 26 غرفة منها بقايا حبوب لم يعد إنسان اليوم يعرفها. فمن أهم المكتشفات لهذه السنة افتتاح مخزن يحتوي على أقدم نوع من أنواع القمح في بلاد الشرق، وهو يعرف علمياً بـ(Triricum dicoccum) وعمره خمسة آلاف سنة. وتقول سرحال «إن غرف التخزين المكتشفة سابقاً كانت عادة مبنية من الطين، ولكن غرفة القمح هذه مبنية من الحجر. وبسبب احتراق المبنى، لم يحافظ إلا على 70 كيلوغراماً من الحبوب التي أوقفت النار تآكلها. ووجدت كومة كبيرة من الحطب محروقة كلياً، موضوعة إلى جانب إحدى غرف التخزين بالقرب من إحدى حفر الدعم التي كانت تستخدم لدعم السقف. وهذا الحطب ربما كان محفوظاً في حقيبة أو مربوطاً بما يشكل حزمة، كما تدل عليه طريقة وجوده متراكماً في موقعه الأساسي ومتفحماً كلياً.قريباً من المخازن، عثرت البعثة خلال السنين الماضية على معابد صيدون القديمة التي حفظت في أرضها بعضاً من الأدوات التي تدل على الطقوس الدينية مثل «الشخشيخة» المزينة برأس الالهة المصرية حتحور التي اكتشفت هذه السنة. وتقول سرحال «إن المتحف البريطاني يمتلك ضمن مجموعته قطعة مماثلة لتلك المكتشفة في صيدا، والتي عثر عليها جنباً إلى جنب مع 16 تمثالاً طينياً». والمعروف أن هذه الأداة كانت تستخدم في الرقصات المقدسة والاحتفالات الدينية، ولا سيما في عبادة الالهة حتحور المصرية. وتعتبر هذه الآلة الموسيقية دليلاً آخر على استمرار إقامة الولائم والرقصات الدينية في هذا الموقع على مدى آلاف السنين، ويبدو أن العادة كانت تقوم على كسر الجرار والتماثيل وإلقائها على الأرض خارج المعبد، حيث اكتشفها العلماء، بعد ثلاثة آلاف سنة».
وتتميز حفرية صيدا بسرعة المنشورات العلمية بشأن القطع المكتشفة خلال التنقيبات. وبالطبع، تأخذ القطع الأثرية الفنية الكثير من اهتمام سرحال وفريقها العلمي. فخلال السنين الماضية، عُثر داخل علبة موضوعة في مقبرة على ختم اسطواني من الفترة الكنعانية (3500 حتى 1100)، تميّز بالنقوش المنحوتة عليه: حيوانان يقفان كالبشر ويرقصان وهما يحيطان بإله يحمل قيثارة ويطل من ورائه أسد. كان يمكن هذا الرسم أن يعتبر مجرد تحفة أثرية مثل سابقاتها، وأن ينتهي في متحف الموقع. لكن الوجوه البشرية لهذه الحيوانات الراقصة حركت حشرية عالمة الآثار، فقررت سرحال دراسة القطعة بالتفصيل. ستة أشهر من العمل المتواصل الذي يرتكز على المقاربات الفنية، تقول سرحال «ما لفت نظري هو تداخل الرسم المصري الفرعوني مع حضارات بلاد ما بين النهرين وفن الأناضول. فبين حركة الحيوانات وتصوير الوجوه تداخل قوي لفنون هذه الحضارات، وفي الوقت نفسه يبرز فن جديد. وهذا ما استطعت أن أحدده كفن خاص بصيدا. فن يتميز بمزجه لفنون كل حضارات الشرق الأوسط واستعمالها للتماشي مع متطلباته ومعتقداته. فن صيدا نموذج عن التمازج الذي كانت تعيشه هذه المدينة يومياً، فهي كانت نقطة وصل تعج بالحياة».
الختم وكل القطع الأثرية المكتشفة على الموقع، مع المخازن والمعابد والقبور، ستكون محور متحف الموقع الذي موّله الصندوق الكويتي للتنمية، والذي بدئ العمل على خارطته.