استناداً إلى اتفاقية موقعة بين الهيئة العامة للآثار والتراث في العراق وجامعة نيويورك، احتضنت مدينة الناصرية خبيرين آثاريين أميركيين هما: الدكتورة اليزابيث ستون، والدكتور بول زيمانسكي في زيارة استمرت نحو أسبوع، وشهدت إجراء مسوحات أولية مكثفة في مدينة سومرية صغيرة تبعد نحو 4 كلم شمال مدينة أور. وأجرى الفريق الآثاري المسوحات باستخدام الصور الجوية للمنطقة المذكورة، التي أظهرت وجود نهر صغير يجلب المياه من مدينة أور ويوصله إلى المدينة الصغيرة المكتشفة حديثاً، فينتهي النهر في مرسى للسفن عند تخوم المدينة.وترى ستون أنّ «النتائج الميدانية قادت إلى فهم أولي لطبيعة المدينة العمرانية، والفترات التاريخية للاستيطان فيها، التي بدأت في القرن الواحد والعشرين قبل الميلاد، وبقيت مأهولة حتى منتصف القرن الثاني عشر قبل الميلاد». ويعتقد المهتمون بالشأن الآثاري أنّ معظم الحفريات التي أجريت في العراق سابقاً كانت تستهدف المراكز الحضرية الواسعة، والمدن الكبيرة، ونادراً ما كانت تجري في مدن صغيرة، كما في الموقع القريب من اور. ويشرح زيمانسكي «أنّ الحفريات تقدّم أجوبة عن أسئلة أساسية تتعلق بماهية العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية بين المدينة المكتشفة وأور، باعتبارها المدينة الأم. وتسمح بفهم نظام الري المتبع في هذه المنطقة، وطريقة توزيع المياه والأنهر والجداول المحيطة بها، والأهم معرفة كيفية تحول مجرى نهر الفرات من مدينة أور إلى مجراه الحالي، الذي يمر في مدينة الناصرية ويبعد مسافة تقدر بـ17 كيلومتراً شرق مدينة أور».
ويلفت الآثاري عبد الأمير الحمداني إلى أن «زيارة الفريق الأميركي تسهم في إحياء التواصل المعرفي والعلمي في مجال حماية الإرث الثقافي، وخصوصاً أنّ الفريق العراقي يحتاج إلى التلاقح مع الخبرات العالمية، بعد توقف العمل الآثاري منذ التسعينات، بسبب الحصار والحروب التي أدخلت العراق في عزلة عن العالم، وأفقده التواصل مع المؤسسات الدولية المعنية بالآثار».
وجرى عدد من المثقفين العراقيين حواراً مباشراً مع الخبيرين اللذين زارا العراق منذ سبعينيات القرن الماضي، وتميزا في السنوات الماضية بنضالهما بشأن سرقة الآثار العراقية، وكانت تربطهما صداقة قوية بالراحل دوني جورج، المدير السابق للمتحف العراقي، الذي غادر إلى الولايات المتحدة بعد التهديدات بالقتل لعائلته. الأمر دفع بمثقفي محافظة ذي قار إلى تنظيم حفل استذكاري للعالم العراقي الراحل مع محاضرة للاثاريين. وقال وزير الثقافة الأسبق مفيد الجزائري «إنّ الثقافة العراقية منيت بخسارة كبيرة برحيل دوني جورج، الذي قدم جهداً مضنياً من أجل حماية التراث الحضاري القديم، واستعادة القطع الآثارية المسروقة بعد عام 2003». وشدد على أنّ «العراق يحتاج اليوم إلى رعاية أجيال جديدة وتنمية كفاءات علمية وأكاديمية في مجال حفظ الآثار والتراث الحضاري ليواصلوا مسيرة من سبقوهم».
أما ستون، فقدمت شرحاً عن مراحل الحياة في العراق القديم والمقومات التي أسهمت في نشوء الحضارة السومرية، فضلاً عن كيفية إدارة شؤون الدولة والعلاقة بين السلطات المتمثلة بالملك والكهنة وعموم الناس. وتحدث زيمانسكي عن الأطوار المختلفة التي مرت بها حضارة العراق من مرحلة الأهوار إلى عتبة الإمبراطورية، والأسباب الموجبة لازدهار تلك الحضارة. وعلق الكاتب أمير دوشي على المحاضرات قائلاً: «إن فعالية من هذا النوع تفتح آفاقاً معرفية افتقدها العراق، وتؤكد في الوقت ذاته أنّ حماية الآثار مسؤولية وطنية، وشكل من أشكال الممارسة الحياتية المتحضرة لأي شعب له ثقافة يفتخر بها».