يتداول أبناء المخيمات الفلسطينية في لبنان نكتة تتساءل عمن هو أكبر فصيل فلسطيني في المخيمات. الجواب ليس، كما قد يخطر على البال فوراً، «فتح» أو «حماس»، بل هو، ببساطة، «فصيل المخبرين». هذه النكتة السمجة تعكس الواقع الأمني الذي يعيش في ظلّه الفلسطينيون في مخيمات اللجوء على امتداد الأراضي اللبنانية، إذ إن لكل من الأجهزة الأمنية اللبنانية عيوناً داخل هذه المخيمات التي يعرف أهلها، جيداً، هؤلاء «الفسّادين»، بل يعرفون، أيضاً، لأي جهاز أمني يتبع كل مخبر من هؤلاء، ومن هو الضابط المسؤول عنه، وكيف جرى تجنيده!
إذاً، ما من مخيم خالٍ من المخبرين، وخصوصاً أن الدولة تتعاطى مع اللاجئين الفلسطينيين كملف أمني تابع لوزارة الداخلية والبلديات، على عكس بعض الدول العربية، مثل سوريا، التي تتعاطى معهم كملف اجتماعي تابع لوزارة الشؤون الاجتماعية. ومهمة المخبرين تُختصر بمراقبة «كلّ شاردة وواردة» تحصل في المخيم. ينتشر هؤلاء في كل مكان: في صفوف التنظيمات، الفصائل، والجمعيات التي قد يكونون منتسبين إليها، كما تجدهم في الأزقة وأماكن اللهو، وصولاً إلى هدفهم الأكبر: المساجد وحلقات التدريس الديني. وعبر هذه الأخيرة يسعى هؤلاء الى اقتناص «الصيد الثمين» المتمثل في تحركات الأصوليين الإسلاميين داخل بعض المخيمات، وخصوصاً عين الحلوة. وبالنسبة إلى أبناء المخيمات، والمعنيين منهم بالملف الأمني، فإن الخطر الذي يمثله هؤلاء المخبرون على مجتمعهم هو «مزاجيتهم» في كتابة التقارير، إذ يعمد بعض «العَسَس»، كما يُلقّبون، الى «تمرير أسماء أشخاص، قد يكونون على خلاف معهم، في تقاريرهم التي يرفعونها، فيتحوّل هؤلاء إلى مطلوبين لأجهزة الدولة»، بحسب ما يقول مسؤول أمني فلسطيني في مخيم شاتيلا. ووصل الأمر ببعضهم الى تدبيج تقارير تتهم بعض الأشخاص بترويج المخدرات، مثلاً، على خلفية مشاكل شخصية، لذلك تؤدي هذه الممارسات الى إشكالات مستمرة بين المدنيين والمخبرين المستقوين بالسلطة.
بعض «الفسّادين» وصلت بهم الوقاحة الى درجة التبجح أمام معارفهم وأصدقائهم بـ «عملهم الإضافي». ففي مخيم شاتيلا، ينقل بعض المسؤولين الفلسطينيين رواية عن عملية دهم نفذتها قوة من الأمن الداخلي لأحد بيوت المخيم، بعدما حصلت على «إحداثياتها» من أحد المخبرين. وكانت الصدمة من «حجم وقاحة المخبر» عندما شارك الأخير في عملية الدهم، بعدما رافق عناصرها «على المكشوف» الى المنزل المستهدف.
والعمل الأمني الذي يقوم به المخبرون، نيابة عن القوى الأمنية اللبنانية في المخيمات، لا يقتصر على كتابة التقارير ورفعها لـ «فوق»، فبحسب مسؤولين فلسطينيين، يتردد أن بعض الأجهزة الأمنية اللبنانية تعمل على تسهيل مرور المواد الممنوعة وتأمين غطاء لهؤلاء المخبرين لتمريرها بهدف الإيقاع بالعدد الأكبر من المطلوبين للدولة.
ففي مخيم عين الحلوة، أكثر المخيمات الفلسطينية إثارة بالنسبة الى الأجهزة اللبنانية، هناك تاجر سلاح معروف لا يخفي طبيعة عمله، ويقصده «هواة» شراء الأسلحة الحربية حيث يجدون ما يبحثون عنه بـ «أسعار جيدة». لكن «مشكلته الوحيدة» هي أنه على تواصل مباشر مع بعض الأجهزة الأمنية اللبنانية. ويروي بعض أبناء المخيم قصصاً كيف أن الذي «يلبي طلبات زبائنه، يسارع فور خروج الزبون الى الاتصال بالقوى الأمنية التي تلاقي الشاري عند باب المخيم لتحتجزه، وتعيد قطعة السلاح إلى الرجل»!
ينتشر «المخبرون» بكثافة في عين الحلوة. فعدا كونه أكبر المخيمات الفلسطينية وأكثرها كثافة سكانية في لبنان، يسكن المخيم الفلسطيني بعض المطلوبين الإسلاميين. «عيون» الدولة في عين الحلوة معروفون، إضافة إلى أسماء ضباط الارتباط المسؤولين عنهم. ليس هذا فحسب، فهؤلاء يكادون يكونون مفروزين إلى جداول وفقاً لأي جهاز أمني يعملون.
بالنسبة إلى القيادات الأمنية الفلسطينية في المخيم، يتسبب المخبرون في «أزمة في العلاقة بيننا وبين القوى الأمنية اللبنانية»، كما يقول قائد قوات الكفاح المسلح محمود عيسى الملقب بـ «اللينو». ويروي كيف يكتب هؤلاء تقارير «ضد أشخاص يكرهونهم»، ويضمنونها معلومات مغلوطة، لافتاً الى أنه «من الناحية الأمنية، فإن كل هذه التقارير مفيدة، لأنه من بين مئة معلومة خطأ لا بد أن تمر معلومة صحيحة يمكن الاعتماد عليها»، لكن «اللينو» يشير الى أن هذه التقارير الكاذبة تربك الأمنيين الفلسطينيين، إذ إنها ترفع عدد المطلوبين في المخيم، وتعرقل التقارير الكاذبة عمل عناصر الكفاح المسلح وضباط لجان الارتباط مع الجيش. ويوضح: «منذ أسبوع أوقف خمسة مسافرين بناءً على تقرير، عملنا لمدة أسبوع في التحقيق والتدقيق في الموضوع ليتبين أن التقرير كاذب من مخبر كاذب». ويضيف «لسنا ضد تعاطي القوى الأمنية مع المخبرين، لكنهم يكذبون عليهم ويدفعون بهم إلى العمل واتخاذ مواقف خاطئة بسبب معلومات مضلِّلة وغير صحيحة». أما عن الحلّ لهذه الأزمة، فيقول «اللينو» إنه يوجد «ضباط ارتباط مع الجيش ونحن متعاونون على نحو كامل. نعرف أن القوى الأمنية اللبنانية لا يمكنها أن تلغي وجود المخبرين لأنهم أبلغونا أنهم يريدون البقاء مطّلعين على الوضع الأمني داخل المخيم، فليبقوهم، لكننا طلبنا من القوى الأمنية ألا تأخذ بالمعلومات الواردة اليها في هذه التقارير إلا بعد مراجعتنا، لنعمل على مقاطعة ما لدينا مع هذه المعلومات، وعند التأكد من صحتها نلقي القبض على المطلوبين حتى نتخلص منهم». ويأمل أن «نصل إلى مرحلة تصبح فيها الثقة بنا كبيرة، وبالنسبة إلينا فإننا نقوم بواجباتنا من دون أن نُتعب أو نكلّف القوى الأمنية أي مبالغ مالية». وعن الإجراءات لمكافحة ظاهرة المخبرين يقول «اللينو»: «تعترف القوى الأمنية بأن أغلب التقارير كيدي وكاذب، لكنهم مضطرون إلى التعاطي معها، لأنه في الأمن «فش شي كذب»، كما أننا لا نستطيع أن نتّخذ أي إجراءات ضد المخبرين، لكن المطلوب من الدولة أن تكون هناك مراجعة للعلاقة مع المخبرين الذين باتوا معروفين بالكذب».
في موازاة ذلك، يطفو إلى السطح ملف المطلوبين، أكبر القضايا في المخيمات الفلسطينية بعد ملف المخبرين. مطلوبون يصلح تسميتهم «طفّار المخيّمات». يتنوّع هؤلاء تبعاً لنوع الجرم المتهمين فيه. فهناك مطلوبون بجرائم عدلية، وآخرون بجرائم سياسية، معظم هؤلاء فلسطينيون، لكن بينهم، أيضاً، اللبناني والسوري والعراقي والسعودي وغير ذلك من الجنسيات. فالطبيعة الأمنية للمخيم لجهة عدم ضبط السلاح داخله وعدم دخول القوى الأمنية اليه حوّلته إلى ملاذ لكافة المطلوبين، الذين يلجأون إليه هرباً من أجهزة الأمن اللبنانية. وينقسم المخيم إلى مربعات أمنية صغيرة. يسيطر على كل منها فصيل فلسطيني كعصبة الأنصار وحركة فتح والقيادة العامة وجند الشام والحركة الإسلامية المجاهدة وحماس. والأمر نفسه ينطبق على المساجد المقسّمة هي أيضاً بين الفصائل بحسب السيطرة الأمنية. هذا التداخل بين هذه المربعات، وغياب المرجعية القائدة، يسهّلان تغلغل المطلوبين في أروقة المخيم الضيّقة بما يحول دون إمكان ملاحقتهم.
يتفاوت عدد المطلوبين داخل مخيم عين الحلوة بين حد أقصى هو 5000 مطلوب بحسب اللواء منير المقدح، قائد المقر العام لحركة فتح في لبنان، وحد أدنى هو 400 مطلوب، كما يقول «اللينو». غالبية المطلوبين حُرّرت بحقهم مذكرات توقيف في قضايا «خفيفة» كالانتماء إلى حزب محظور أو إطلاق النار. يعزو المسؤولان الفلسطينيان ارتفاع عدد المطلوبين الى تفشّي المخبرين داخل المخيمات. فأي تقرير «كيدي» يكتبه مُخبر، يُحوّل ساكن المخيّم إلى مطلوب للعدالة. وفي معظم الأحيان، يفاجأ من أُضيف اسمه إلى قائمة المطلوبين دون علمه، إذ فور مروره على حاجز أمني لبناني يجري توقيفه. ويشير «اللينو» الى أن ملف المطلوبين بموجب تقارير كاذبة يجري العمل على حلّه بالتنسيق مع الجهات الأمنية اللبنانية، مؤكداً أن هذا الملف سينتهي. ويوضح قائد الكفاح المسلّح أن آلية الحل تتضمن تسليم هؤلاء أنفسهم بالتنسيق مع استخبارات الجيش اللبناني للتحقيق معهم تمهيداً لتسوية أوضاعهم.
العلاقة الطردية بين المخبرين والمطلوبين تتجلى في حادثة حصلت منذ نحو سنة في مخيم برج البراجنة. يومها نسّقت القوى الأمنية اللبنانية مع اللجنة الأمنية الموجودة في المخيم، تمهيداً لدهم أحد المنازل المتاخمة للمخيم. طلبت من القوى العسكرية الفلسطينية المساعدة لمنع المطلوبين من الهرب إلى داخل أزقة المخيم. قبل عملية الدهم عمل بعض المخبرين على مراقبة المنزل على نحو لصيق، وعندما أصبحت المجموعة المستهدفة داخل المنزل دهمته القوى الأمنية استناداً إلى الاتصال الذي تلقته من المخبر. أثناء عملية الدهم سقط قتيل من آل زعيتر ، وتلقائياً ومن دون مبرر، تحوّل أعضاء اللجنة الأمنية التي كانت موجودة بطلب من القوى الأمنية إلى مطلوبين فارّين من وجه العدالة. انطلاقاً من الضرر الحاصل، يؤكد قادة فلسطينيون ضرورة إنهاء ملف المخبرين داخل المخيّم رغم تمسّك القوى اللبنانية بهم، ويرى هؤلاء أن الحل يكون بضبط أمن المخيّم واستقراره، لأن ذلك من شأنه خفض أعدادهم على نحو كبير، باعتبار أنهم يكثرون مع تزايد الأحداث الأمنية.
إذاً، ملف المخبرين ومعه المطلوبون باتا على نار حامية بانتظار أن ينضجا، لكن وسط ذلك يبرز ملف نحو ثلاثين مطلوباً تعد قضاياهم مستعصية، إذ إن أقل هؤلاء محكوم بأكثر من حكم إعدام، ومعظمهم مطلوبون بتهم إطلاق النار على عناصر الجيش اللبناني، أو بتهمة الانتماء الى تنظيم «فتح الإسلام» ممن هربوا من مخيّم نهر البارد، وأبرزهم: عبد الغني جوهر وهيثم الشعبي وسامح الشهابي والأخوان أبو السعيد. وفي هذا السياق، يشير أحد القادة الفلسطينيين داخل عين الحلوة إلى أن هؤلاء معروفون، لكنهم لا يظهرون أمام العامة.
مشكلة المطلوبين في عين الحلوة لا تكتمل من دون الحديث عن تجمع الطوارئ الذي يتجاور فيه فلسطينيون ولبنانيون، وتنتشر فيه الخلايا الإرهابية النائمة. يصف قيادي فلسطيني «الطوارئ» بأنه «حضن الخلايا الإرهابية النائمة داخل المخيم الفلسطيني»، لافتاً إلى أن «هذه الخلايا تنشط عندما تُدعم بالمال والسلاح، لكنها في الوقت الحالي تعيش على فتات الطعام كي لا تموت، بانتظار الساعة الصفر». وبحسب مسؤول أمني لبناني هناك معلومات عن «وجود إرهابيين عرب في الطوارئ»، لافتاً إلى أن «عمليات الرصد التي يجريها المخبرون تؤكّد أن هؤلاء دخلوا إلى الطوارئ منذ شهور طويلة»، ومشيراً إلى أن المعطيات المتوافرة تفيد بأنهم لم يغادروا الطوارئ بعد، كما يتحدث مسؤولون أيضاً، ضمن «مشكلة الطوارئ»، عن وجود ما يعرف بـ «مطلوبي التعمير»، جلّ هؤلاء من الإسلاميين، بينهم نحو 16 مطلوباً أجنبياً، منهم ثلاثة سعوديين.
ينفي «اللينو» وجود مطلوبين عرب «فإشاراتنا تقول إنهم رحلوا»، لكنه يؤكد أن موضوع الطوارئ «يجب أن يُحلّ»، مقراً في الوقت نفسه بأن ذلك «غير ممكن في الوقت الحالي دون عملية حسم».



سجونٌ ومحاكم

أمن المخيّم ذاتي في الأساس، تتولّاه اللجنة الأمنية المشكّلة من الفصائل الفلسطينية. يؤدّي هؤلاء دور قوى الأمن الداخلي فيكونون الشرطة على المخالفين. تراوح المخالفات بين جرائم قتل وسرقة وخلاف وإطلاق نار وترويج وتعاطي مخدرات. تقع المخالفة، فإذا كانت جُنحة يُحقق مع المرتكب داخل المخيّم ويصدر بحقه حكمٌ تأديبي يراوح بين عقوبة «الفلقة»، (طريقة قديمة في التأديب عبارة عن ضرب كفّ القدمين بخيزرانة بعد تثبيتهما بحبل وعصا)، وصولاً إلى التوقيف حتى ثلاثة أشهر، إذا كان المخالف عسكرياً تابعاً لأحد الفصائل. مراكز التوقيف عبارة عن غرفة من دون نافذة مزوّدة بباب حديدي يُسجن المخالف فيها إفرادياً. أما جرائم القتل وترويج المخدرات، فتجري القوّة الفلسطينية التحقيق فيها قبل أن تُسلّم المرتكب مع محضر التحقيق إلى الجهات الأمنية اللبنانية. يقول اللواء منير المقدح (الصورة) إن دور القوى الفلسطينية محصور بضبط الأمن، نافياً وجود مراكز توقيف أو سجون كبيرة كما يشاع داخل المخيّم. ويذكر اللواء أن تلك السجون أغلقت قبل سنوات عندما كانت القوّة الفلسطينية تقيم المحاكم العسكرية، مشيراً إلى أنه كان يرأسها منذ عام 1994حيث أصدرت أحكامها بالإعدام والسجن حتى سنوات بحق عديدين.



أساليب التجنيد

تكثر أساليب تجنيد المخبرين داخل المخيمات الفلسطينية لمصلحة الجهات الأمنية المختلفة. فتراوح بين ترهيبهم بالاعتقال والإيذاء الجسدي أو ترغيبهم بمغريات «التعامل» معها. فالعمل التجسسي ينشط داخل المخيمات للطابع الأمني والعسكري المسيطر فيها، على الفصائل الفلسطينية نفسها قبل أن يكون على الفلسطينيين من قبل الجهات اللبنانية (فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي واستخبارات الجيش). في الغالب، تبدأ عملية التجنيد بمحاولة فتح قناة اتصال مع المخبر المستقبلي. فإما تكون تلك الخطوة على نحو غير مباشر، يتولى تنفيذها مخبر «عتيق» يعرض عليه «التعاون»، أو يعتمد الخطوة التي باتت أكثر رواجاً. توقف الجهة الأمنية من تُريد تشغيله بأكثر من ذريعة لتعرض عليه العمل لاحقاً. يُطلب منه الإبلاغ عن كل شاردة وواردة تقع عليها عيناه داخل المخيم. غالباً لا يكون لـ «مشروع المخبر» ملف جرمي، أو يُبتدع له أحياناً فتُلصق به تُهمة ما، إضافةً إلى بعض الاستثناءات في حالات يكون فيها المخبر مجرماً فعلياً. فيُطوى ملفه بمجرّد بدء صاحبه العمل لمصلحة الجهة المشغّلة.
أما التقديمات، فتكاد لا تذكر حيث لا تتخطى بطاقات تشريج الهاتف. وفي أحسن الأحوال، تُصرف مبالغ مالية زهيدة، باستثناء أولئك الذين يُكلّفون بمهمات استثنائية كمراقبة تحرّكات شخصيات قيادية مهمة بفعل موقعهم في الفصيل. وفوق كل ذلك، يحصل المخبر على «كارت بلانش» يتيح له أن يفعل ما يحلو له دون حسيب أو رقيب، فيما الغطاء يوفّره المشغّلون إن كانوا جهة أمنية لبنانية.