بقي من حرج بيروت 300 ألف متر مربع. في البدء كانت أشجار الصنوبر التي زرعها الأمير فخر الدين الثاني تسوّر كل ما يعرف بطريق المطار حالياً. زرعها الأمير بناءً على نصيحة «صحيّة» من أصدقائه «التوسكانيين». وخلال الحرب العالمية الثانية أحبّ الفرنسيون الحرج. شُقت الطريق إليه من قصر شارل ديغول (قصر الصنوبر)، وما زالت آثار الأشجار تدل إلى منطقة المتحف أكثر من جميع لافتات السير المزروعة حديثاً. الآثار هي بقايا الحرج حين كان كبيراً، فقد قضم الباطون مساحته الأصلية ومساحة السماء المحيطة به. نام الأموات في مقابر استحدثت داخله بعدما تكاثروا وضاقت الأرض. حوّلته الحرب إلى «بورديل» أخضر، وبعد الحرب أعيد فتحه ثم إغلاقه عام 1998. كان دائماً محط «جدلٍ» لبناني. واليوم، بشكلهِ الحالي المحاط بسياج حديدي وأسلاك شائكة، يبدو سجناً فريداً، لا يدخله إلا «المحظوظون»، وهم الذين ينالون رخصة الدخول إلى الحرج. التنزّه يحتاج إلى رخصة قادرة على استيفاء شروط المحافظ: يجب إظهار صورة عن الهوية أولاً وإذا كان عمر «المتنزّه» أقل من ثلاثين عاماً، يجب أن ينسى أمر التصريح. الزوّار اليوميون، كما يقول العارفون بشؤون «رئة المدينة»، معظمهم «فئة أولى». الوزير السابق، كريم بقرادوني، مثلاً، يمرّ بين الحين والآخر للتنزّه صباحاً. يذكر الراوي بقرادوني أكثر من غيره «لأنه يشاهده على التلفزيون». الآخرون لا يشاهدهم، لكنه يعرف أنهم «مديرون عامون وقضاة وضباط من رتب عالية». يوصلهم سائقوهم ويعودون لأخذهم بعد قليل. أما الآخرون، فبإمكانهم استراق النظر عبر أسوار الحرج وتنشق ما يتسرّب من الهواء إلى الخارج. في معادلة كهذه، هم مواطنون على «هامش» الحرج. ومسؤولية عزلهم لا تقع على محافظ بيروت، ناصيف قالوش، وحده، إذ يُسرّ العارفون بأن «لا قرار سياسياً حتى الآن بفتح الحدود بين الضاحية وبيروت الإدارية». 300 ألف متر من أرضهم مغلقة في وجههم، ومحروسة من اجتياح التوّاقين إلى هواء «نظيف»، في بلدٍ اتسخ فيه كل شيء، تقريباً.
يؤكد رئيس بلدية بيروت، بلال حمد، أن الأمر لن يبقى كذلك. فهو لا يستطيع أن «يواجه مطالبات البيروتيين بإعادة فتح الحرج». عملياً، الموضوع يندرج ضمن صلاحياته، على قاعدة اللامركزية الإدارية. أما في الشق «التطبيقي» فقرار حمد قد لا يكون مستقلاً، استناداً إلى التجارب السابقة بين البلديات والسياسيين، خصوصاً أن سلطته «تقريرية»، بينما تعود السلطة «التنفيذية» للمحافظ. لكن، ووفقاً لما يعد به حمد، فإنها «مسألة أشهر قليلة فقط». وعسى ألا تكون الأشهر القليلة «مطاطة»، فقد استغرق تأهيل الحرج سنين. وعن هذا التأهيل البطيء، يقول عضو بلدي سابق، إن أولى اهتمامات البلديات السابقة تركزت على إزالة «الاعتداءات الاسرائيلية» عن الحرج. الأعداء، إذاً كما اللبنانيون، أحبوا الحرج وعاثوا فيه ـــــ كما اللبنانيون أيضاً ـــــ فساداً. دخله الاسرائيليون عقب احتلالهم العاصمة عام 1982. فعلوا بالأشجار أموراً لا تقل فظاعةً عما فعلوه بالبشر. ولهذه الأسباب، انطلقت الخطة لإعادة الحرج ببطء، متضمنةً ثلاث مراحل. يعتقد العضو البلدي أن من «الإنصاف» التذكير بدور البلدية السابقة في زرع آلاف الأشجار، والأزهار، بعد استيرادها من الخارج. الدور الذي استغرق 14 عاماً! فقد استعاد الحرج «منظره»، وأسّست البلدية مدرسةً بيئية خضراء، لكن روّادها كانوا محدودين أيضاً، واقتصروا على طلاب الهندسة والزراعة. وبقيت المرحلة الأخيرة: إعادة افتتاح الحرج في 2007. أين أصبحت هذه المرحلة؟ لا أحد يعلم ولا يمكن فهم ذلك بسهولة.
يعيدنا حمد مجدّداً إلى الفترة التي تسلم فيها الفرنسيون شؤون الحرج اللبناني، وتحديداً بلدية «إيل دو فرانس». البلدية التي يقول متابعون انها دفعت ملايين الفرنكات للتشجير، غرس الورود، وفتح الممرّات بطول 500 متر وعرض 50 متراً داخل الحرج. وخلال الشهر الجاري، وقعت «إيل دو فرانس» عينها عقداً جديداً مع البلدية، يلزم الأخيرة وضع خطة لتأمين «الانتقال السليم» للمتنزهين، من الحرج، أو «قصر الصنوبر» كما يحب الفرنسيون أن يسمّوه، إلى وسط المدينة، التي يسميها اللبنانيون «السوليدير». يقول حمد إن الفرنسيين قدموا الدراسة لحماية المتنزهين. لكن، أين هم المتنزهون؟ الفرنسيون سعداء بالحرج. ينقل عنهم بلديون محليون تشبيههم إياه بحديقة «لوكسمبورغ» الشهيرة في باريس. ويمكن التعامل مع سعادتهم بإيجابيّة، إذ إنهم، وبشهادة بلديّة بيروت، أسهموا في تأهيله وموّلوا عودته إلى الحياة. لكن لا يمكن الراغبين بالتنزّه في الحرج التعامل معهم بإيجابيّة، حين ينظرون إليهم من خلف الأسوار. يشعرون بـ«نعرة» الاستعمار. والمشهد، مهما كانت اعتبارات البلدية، ليس طبيعياً.
لن يدخل المتنزهون إلى الحرج قبل إضافة «المواد الصلبة» إليه. يحدث المصطلح وقعاً غريباً في البداية، فهو غير مفهوم، إذ ما علاقة المواد الصلبة بالأشجار والنباتات؟ سرعان ما يوضح حمد هذه التفاصيل التقنية. المواد الصلبة «هي كل شيء». المقاعد وبرك الماء ومستوعبات القمامة والطرقات المزمع إصلاحها داخل الحرج. هناك مسرح مفترض أيضاً. وهي المواد التي سأله الفرنسيون عنها في اجتماع في المجلس البلدي في الثامن من حزيران الفائت. الفرنسيون أدوا «قسطهم للعلا». البنى التحتية جاهزة، ابتداءً بأدوات الريّ، مروراً بالبرك الاصطناعية، وصولاً إلى الممرات التي شقها الفرنسيون. ورغم أن التصميم الداخلي للحرج يعود لمصمم لبناني، هو بيار نعمة، بمساعدة فريديريك فرانسيس، فقد أشرفت «إيل دو فرانس» عليه أيضاً. بقي الشق اللبناني، الذي لا يبدو «مستحيلاً» من الناحية التقنية، خصوصاً أن حمد «متحمس» بعدما أصبح عديد فوج الحرس البلدي 700 فرد أخيراً. ويمكن أن يطلب رئيس البلدية زيادة هذا العدد لحراسة الحرج.
«أشهر قليلة» إذاً ويفتح الحرج. إلى حينه ينبغي للمواطن أن يقوم بالإجراءات الرتيبة عينها. أن يذهب إلى محافظ بيروت ويطلب إذناً، ثم ينتظر الموافقة، ثم ينتظر الحارس كي يجد اسمه في الجدول الموجود أمامه. لكن أحد الزوّار يقول إنه ليس مهجوراً كما يوحي منظره من الخارج، خصوصاً من جهة «سبق الخيل»، الذي يشهد زحمة في أيام الأحد. هناك مدارس تصطحب تلامذتها أحياناً، وهناك «الأجانب»، وهناك الطلاب الذين يتمرّنون على العروض المسرحية، والمخرجون. والجميع يدخل بإذن المحافظ (بالوكالة) طبعاً، إذ إنه الوحيد الذي يملك «مفتاح» الحرج الضخم. ورغم «وعود» حمد، لا يبدو «الجيران» متفائلين. الأبواب مغلقة والأحاديث عن تقسيم الحرج تزيد من قلقهم.
ثمة قضية أخرى إذاً. إذ ربما يصبح «دخول الحرج» غير الخروج منه بعد أن يقسّم إلى مجموعة حدائق، وفقاً لما تراه بلدية بيروت مناسباً، كما أكد نائب رئيسها، نديم أبو رزق. قد تختلف المداخل والمخارج وتقطّع أوصاله أكثر مما هي مقطّعة اليوم. صحيح أن البلدية تستند في نظرياتها إلى دراسات علمية، لكن «عشاق» الحرج لن يقبلوا بتقسيمه. هؤلاء الذين يضطر بعضهم، ممن تحدثوا إلى «الأخبار»، إلى اللجوء إلى أساليب «ملتوية» لدخول الحرج. منهم من «يرشو» الحراس للدخول لساعةٍ، أو ساعتين فقط. ومنهم من يقدم للناطور «بعض الملابس» كي يسمح له بتناول الفطور تحت الصنوبر. وأكثر من ذلك، هناك من يتسلق الأسوار ليلاً، ويتسلل للنوم قبل أن يستيقظ فجراً ويغادر بالطريقة ذاتها. هؤلاء «الشغوفون» لن يرضوا بتمزيقه، بعد إغلاقه في وجههم. حتى إن بعضهم استفاض محللاً، قبل فتح الحرج، مرجحاً أن يكون قراراً مشابهاً «للفصل بين المناطق حتى داخل الحرج». وهذه كارثة برأيهم، تفوق في سوئها ما يسمونه «تنظير» البلدية عن الأخطار المحدقة بالحرج. وفي هذا الإطار، يرفض حمد الحديث عن أسباب طائفية أو مذهبية لإغلاق الحرج، ويجزم أن هذه الأسباب افتراضية، وهي من نسيج خيال اللبنانيين السياسي و«رعبهم». هذا ما يأمله المواطنون الذين ينتظرون عودة الحرج كاملاً وبأسرع وقت.



100% تلوث «على الأقل»

عرضت الجامعة الأميركية في بيروت دراسةً مطلع الشهر الفائت، بيّنت نتائجها تلوّث الهواء في بيروت. استغرقت الدراسة سنتين، وشارك فيها إلى جانب «الأميركية»، المجلس الوطني للبحوث العلمية، وجامعة القديس يوسف، بتمويل من بلدية «إيل دو فرانس». وخلال العرض، أطلقت طبيبة الرئة، ماري لويز كوساكونيسكي، من مستشفى رزق، تحذيراً جدياً، تعقيباً على الدراسة، إذ أشارت إلى أن عدد حالات الربو والتهاب الجيوب الأنفية وأمراض الأمعاء والرئتين ازدادت كثيراً في العقد الماضي: «عدد حالات الربو في لبنان أعلى بـ50% منه في أوروبا والولايات المتحدة». وأظهرت الدراسات أن خفض نسبة التلوث في الهواء إلى المعدلات المقبولة «يخفض حالات الربو إلى 70% والتهاب الشُعَب الهوائية إلى النصف». هكذا، لا يعود فتح الحرج كافياً، ولا الـ260 شجرة صنوبر عدداً مناسباً للتباهي. فقد أوجزت الأستاذتان جوسلين جيرار من جامعة القديس يوسف، ونجاة صليبا من الجامعة الأميركية نتائج الدراسة، التي أجريت ما بين عامي 2008 و2010، وشملت جمع نماذج من الهواء في محطات مراقبة في حرج بيروت، و«الكوليج بروتستانت»، والجامعة الأميركية في بيروت، وجامعة القديس يوسف ـــــ شارع هوفلان، أي المناطق المحاطة باللون الأخضر. رغم ذلك، أظهرت الدراسة أن المعدل السنوي لنسبة غاز «ديوكسيد النيتروجين» بلغ 58 ميكروغراماً في المتر المكعب، بينما المعدل الأقصى الذي تسمح به منظمة الصحة العالمية لهذا الملوث هو 40 ميكروغراماً في المتر المكعب. أما بالنسبة إلى الجزيئات التي تنجم عن غبار الشوارع واستعمال المكابح واحتكاك إطارات السيارات بالأرض، بالإضافة إلى الاشتعال غير المكتمل للوقود، فهذه كلها تخطت المستويات المقبولة 100%... «على الأقل».




3 أضعاف 28 حديقة أخرى

يعترف رئيس بلدية بيروت، بلال حمد، بأن المساحات الخضراء، في بيروت هي «من الأدنى في العالم». وبعد الاطلاع على الإحصاءات الموجودة في البلدية، تبين أن المساحة الخضراء الكبرى، ستبقى حكراً على «طبقةٍ» محدّدة من اللبنانيين، إذا بقي الحرج مغلقاً.
تتباين أهمية هذه الحدائق، تاريخياً وثقافياً، لكن يبقى العامل الأساسي المحدد لأهميتها هو المساحة. وتبعاً للإحصاءات المذكورة، يحتل حرج بيروت وحده مساحة 300 ألف متر مربع، تليه الصنائع 22 ألف متر، والسيوفي 20 الفاً. وتتوزع المساحات الأخرى على النحو الآتي: الرملة البيضاء 10 آلاف متر، برج أبي حيدر 7 آلاف متر، تلة الخياط وأبو شهلا 5 آلاف متر لكلّ واحدة، اليسوعية 4 آلاف و400 متر، الكرنتينا 4 آلاف و200 متر، المتحف 3 آلاف و200 متر، مارنقولا 2200 متر، البسطا التحتا 2200 متر، المدخل الشرقي لبيروت 1200 متر، زقاق البلاط 995 متراً، ليون 850 متراً، سيدة العطايا 800 متر، قصقص للأطفال (القريبة من الحرج) 650 متراً، بينما تبلغ مساحة حدائق سامي الصلح، الحمام العسكري، والرفاعي 450 متراً، وحديقة الرائد 500 متر، و400 متر لكل من حدائق وليم حاوي، التباريز (الأشرفية)، والبسطة الفوقا 400 متر، مقابل 350 متراً لحديقتي الحوري والسريان، و240 متراً لحديقة ساسين، و200 متر لحديقتي أبو شاكر والرواس.
وبمعادلة حسابية، تبلغ مساحة الـ29 حديقة 393185 متراً مربعاً، 300 ألف منها للحرج وحده، والباقي كله للـ28 حديقة الأخرى.